فإن أعوزه حديثُه بنفسه؛ فأحبُّ شيء إليه الحديث عنه، ولاسيَّما إذا حدَّث عنه بكلامه، فإنَّه يقوم مقام خطابه، كما قال القائل: المحبُّون لا شيء ألذُّ [١٠٠ ب] لقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم، ولهذا لم يكن شيءٌ ألذّ لأهل المحبَّة من سماع القرآن، وقد ثبت في الصحيح (١) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأْ عليَّ» قلت: أقرأُ عليك، وعليك أُنزل؟ قال:«إنِّي أُحِبُّ أنْ أسمعهُ من غيري» فقرأْت عليه من أوَّل سورة النِّساء حتى إذا بلغت قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء/٤١] قال: «حسبك» فرفعت رأْسي فإذا عيناه تذْرِفان!
وكان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا؛ أمروا قارئًا يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب إذا دخل عليه أبو موسى؛ يقول: يا أبا موسى! ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأُ أبو موسى، وربما بكى عمر.
ومرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى وهو يُصلِّي من الليل، فأعجبته قراءتُه، فوقف، واستمع لها، فلما غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«لقد مررتُ بك البارحة؛ وأنت تقرأُ، فوقفت، واستمعتُ لقراءتك» فقال: لو أعلمُ أنَّك كنت تسمعُ؛ لحبَّرته لك تحبيرًا (٢).
(١) أخرجه البخاري (٤٥٨٢، ٥٠٤٩، ٥٠٥٠، ٥٠٥٦)، ومسلم (٨٠٠). (٢) أخرجه البخاري (٥٠٤٨)، ومسلم (٧٩٣) دون الجزء الأخير.