فَالْقُرْآنُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ} (١) . وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَّبَ رِوَايَتَهُمْ فَقَالَ تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد} (٢) ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب} (٣) .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَتَرِثُ أَبَاكَ وَلَا أَرِثُ أَبِي؟ لَا يُعلم صِحَّتُهُ عَنْهَا، وَإِنْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ حجة، لأن أباها صلوات الله وسلامه عليه لا يُقاس بأحد من الْبَشَرِ، وَلَيْسَ أَبُو بَكْرٍ أوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَأَبِيهَا، وَلَا هُوَ مِمَّنْ حرَّم اللَّهُ عَلَيْهِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ كَأَبِيهَا، وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّنْ جَعَلَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ مُقَدَّمَةً عَلَى مَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، كَمَا جَعَلَ أَبَاهَا كَذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صان الأنبياء على أَنْ يورَّثوا دُنْيَا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِمَنْ يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الدُّنْيَا وخلَّفوا لورثتهم. وأما أبو بكر الصِّدِّيقِ وَأَمْثَالُهُ فَلَا نُبُوَّةَ لَهُمْ يُقدح فِيهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا صَانَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّنَا عَنِ الْخَطِّ وَالشِّعْرِ صِيَانَةً لِنُبُوَّتِهِ عَنِ الشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذِهِ الصِّيَانَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ((وَالْتَجَأَ فِي ذَلِكَ إِلَى رِوَايَةٍ انْفَرَدَ بِهَا)) كَذِبٌ؛ فَإِنَّ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا نُورَثُ مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ)) رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ هَؤُلَاءِ ثَابِتَةٌ فِي الصحاح
والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ (٤) فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ، يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ جَهْلِهِ أَوْ تَعَمُّدِهِ الْكَذِبَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ((وَكَانَ هُوَ الْغَرِيمَ لَهَا)) كَذِبٌ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَدَّعِ هَذَا الْمَالَ لِنَفْسِهِ وَلَا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقيها كما أن المسجد حق للمسلمين.
الرَّابِعُ: أَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، بَلْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَا انْتَفَعَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كَمَا لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى رجل أنه
(١) الآية ١١ من سورة النساء.(٢) الآية ١٦ من سورة النمل.(٣) الآية ٥و٦ من سورة مريم.(٤) انظر البخاري: ج٤ ص ٧٩، ومسلم: ج٣ ص ١٣٧٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute