أمَّا الأدلَّةُ النَّقليَّةُ الثَّابِتَةُ فلا تُعارِضُ المعقولَ أصلاً؛ كما سبق بيانُه (١)، وحيثُما وُجِدَ ما يُظَنُّ فيه التعارُضُ وجَبَ التَّحقُّقُ فيه مِنْ أمرين:
أوَّلهما: ثبوتُ الدَّليلِ النَّقليِّ. فمتى ثَبَتَ دَليلُ الوَحيِ فهو الحَقُّ.
ومِن أَمثِلَةِ اشتراطِ سلامَةِ الدَّليلِ عقلاً قولُه:«وفي تَرْكِه ﷺ إبانَةَ ذلك أنَّه مُرادٌ به مِنْ وجوهِ تأويلِه البَعضُ دونَ البَعضِ = أَوضَحُ الدَّليلِ على أنَّه مُرادٌ به جميعُ وُجُوهِه التي هو لها مُحتَمِلٌ؛ إذْ لم يَكُنْ مُستَحيلاً في العَقلِ وَجْهٌ مِنها أن يكونَ مِنْ تأويلِه ومَعناه»(٣)، وقولُه في نقدِ بعضِ الأقوالِ:«قيلَ له: أفَتقولُ مِنْ الوَجْهِ الذي قُلْتَ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩]؛ يَلعَبُ اللهُ بهم ويعبَثُ. ولا لَعِبَ مِنْ اللهِ ولا عَبَثَ؟ فإن قَالَ: نعم. وَصَفَ اللهَ بما قد أجمَعَ المسلمون على نفيهِ عنه، وعلى تَخْطِئَةِ واصِفِه به، وأضَافَ إليهِ ما قد قَامَتِ الحُجَّةُ مِنْ العقولِ على ضلالِ مُضِيفِه إليه»(٤).
الثاني مِنْ أوصافِ الدَّليلِ المُعتَبَر: صِحَّةُ تعلُّقِه بالمعنى المُستَدَلِّ له، ومُطابقتُه لموضِع الاستدلالِ؛ فإنَّ صِحَّةَ الدَّليلِ في نَفسِه لا تكفي
(١) ينظر: المطلب الثالث، من الفصل الثاني، في الباب الأول (ص: ٦٦). (٢) ينظر: قانون التأويل (ص: ٣٥١)، ودرء تعارض العقل والنَّقل ١/ ٧٨ - ٩١، والاعتصام (ص: ٥٢٥)، والموافقات ١/ ١٢٥، والصواعق المرسلة ٣/ ٧٩٦ - ٤/ ١٥٣٦. (٣) جامع البيان ١/ ٢٢٥. (٤) جامع البيان ١/ ٣١٨. وينظر: ١/ ٤٥٧، ٢/ ٧٣، ٩/ ١٠٩.