وَثَبَتَ أنَّه فِي هَذِهِ الْحَالِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ، وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" (١).
وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا، لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثقاة رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مُسْنَدًا، وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَد عَضَّدَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهلِ الْعِلْمِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمُرْسِلُهُ مِن أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَد نَصَّ الشَافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْل هَذَا الْمُرْسَلِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْأِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا مِن الْأمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ، فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ، وَجَاءَت السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ، فَفِي "صَحِيح مُسْلِمٍ" عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا".
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَن ابْنِ أكيمة الليثي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ مِن صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ: "هَل قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنازَعُ الْقُرْآنَ"؟ (٢).
قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَن الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-
(١) قال الحافظ -رحمه الله-: حَدِيثُ: "مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" مَشْهُورٌ مِن حَدِيث جَابِرٍ، وَلَهُ طُرُق عَن جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ وَكُلُّهَا مَعْلُولَةٌ. اهـ. التلخيص الحبير (١/ ٥٦٨ - ٥٦٩).(٢) قال الشيخ: وَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن الْمؤتَمِّينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةَ، فَيُثْقِلُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُلَبِّسُونَهَا عَلَيْهِ، وَيُلَبِّسُونَ عَلَى مَن يُقَارِبُهُم الْإِصْغَاءَ وَالِاسْتِمَاعَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، فَيُفَوِّتُونَ مَقْصُودَ جَهْرِ الْإِمَامِ، وَمَقْصُودَ اسْتِمَاعِ الْمَأُمُومِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْل هَذَا يَكُونُ مَكرُوهًا. اهـ. (٢٣/ ٣١٦)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute