ومن هذا اكتفاء أبي حنيفة في عدالة الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص ولم ير وجوب تزكيتهم عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلمون عدول بعضهم على بعض)) فلما رغب الفساد على الناس وقل الخير وفشا الكذب والبهتان وتجرأ الناس على شهادة الزور قال الإمامان محمد وأبو يوسف بضرورة تزكية جميع الشهود ولا يكتفي بالعدالة الظاهرة، والحق أن الخلاف بينهما خلال عصر وأوان وتغير زمان والفتوى اليوم على مذهب الإمامين ويتضح من هذه الأمثلة التي ضربنا أن الأحكام المبنية على الأعراف يمكن أن تتغير بتغير الأعراف، قال القرافي في الفروق: تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه (١) وقال أيضا: وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على السطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك من غير أهل إقليميك يستفيتك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين وسلف الماضين، ثم إن التطور العالمي في الميادين المختلفة كالتقنية العلمية والتنمية الاقتصادية وكذلك العلاقات بين الشعوب والدول ووجود المصانع الكبرى والشركات المتعددة واتساع التجارة وقيام الغرف التجارية والعلاقات المستجدة بين أصحاب العمل والعمال، كل ذلك اقتضى وضع قوانين مختلفة وتنظيمات إدارية متعددة أوجدت أوضاعًا وأشكالًا من العلاقات غيرت عادات كثيرة وأوجدت نوعًا من الأعراف العامة التي أثرت في الناس وغيرت كثيرًا من الأحكام فمن ذلك إلزام الناس جميعا بجواز السفر بحيث لا يستطيع أحد السفر إلى خارج بلاده وحدودها بدونه، ومن هذا إلزام الناس الرجال والنساء في ذلك سواء ببطاقة تعريفه وإلزام أصحاب السيارات بالبطاقة الرمادية التي تحمل رقم السيارة ونوعها ومالكها وإلزام كل سائق سيارة برخصة السياقة، ومن هذا أيضا ما صدر في هذه السنوات الأخيرة من وجوب التأمين ضد الغير أو تأمينًا شاملًا، وقد اقتضى هذا من العلماء أن يبحثوا في موضوع التأمين وهل يجوز أو لا يجوز والأصل فيه عدم الجواز لأنه أشبه ما يكون بالمغامرة والرهان، وهو ممنوع وقد جوزه بعض العلماء قياسا على عقد الموالاة أو الحراسة أو بيع الوفاء عند الحنفية اعتمادًا على العرف ونفي هؤلاء أن يكون فيه غرر أو جهالة مفضية إلى نزاع (٢)
(١) الفروق للقرافي: ١ /١٧٦ (٢) انظر كتاب التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، للأستاذ محمد الدسوقي نشرة المجلس الإسلامي الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة ١٩٦٧ في كتاب التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الجمال – والتأمين، للأستاذ مصطفى الزرقاء، والتأمين البري، للبشير زهرة، دار بو سلامة للطباعة والنشر تونس