ومن هنا ندرك أن العمل نفسه قد يتعدد تبعًا لاختلاف القضاة والمفتين واختلاف الجهات وعندئذٍ يحتاج إلى المقارنة والترجيح فيما بين هذا العمل وذلك وما هذا الاختلاف والعمل إلا لأن الفقهاء لم يضبطوا اتجاه العمل بمبدأ عام ومقياس ملزم للجميع يجب اعتباره، ولو نظرنا إلى ما جرى به العمل نرى منه ما كان وفق القول المشهور في المذهب ومنه ما جرى على القول الضعيف، ومنه ما جرى على خلاف النصوص ومنه ما جرى على ما لا نص فيه، ومنه ما جرى على شبه دليل ومنه ما جرى على وفق دليل المخالف، فمثال ما وافق القول المشهور العقوبة بالمال، فقد جرى العمل فيها بعدم الجواز وهو المشهور والقول الشاذ جوازه وبه أفتى جماعة من الفقهاء بالتعزير بأخذ المال لا يجوز في الراجح عند الأئمة لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه (١) ، وقد أثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع خاصة من مذهب مالك في المشهور عنه ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمره بكسر ما لا قطع فيه من الثمر والكثر وأخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر ونحوه كثير، ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة (٢) .
وقد قسم ابن تيمية العقوبة المالية إلى ثلاثة أقسام، إتلاف وتغيير وتمليك، فالأول إتلاف المنكرات من الأعيان والصفات تبعا لها كإتلاف الأصنام بتكسيرها وتحريقها وتحطيم آلات الملاهي عن أكثر الفقهاء وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما عملًا بفعل عمر حيث حرق حانوت الخمار، ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع وبه أفتى طائفة من الفقهاء، الثاني التغيير كتغيير الشيء مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم كتفكيك آلات الملاهي وتغيير الصورة المصورة، وأما التمليك بمثل ما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من التمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الحبرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها على كاتمها، وقد أجاز المالكية العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا، فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه (٣) .
(١) البدائع ٧/ ٦٣، فتح القدير: ٤ /٢١٢، حاشية ابن عابدين: ٣ /١٩٥، المهذب: ص ٢٨٨، المغني: ٨ /٢٤٤، الاعتصام للشاطبي تحقيق رشيد رضا: ٢ /١٠٥ (٢) راجع الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص ٤٩ وما بعدها، إعلام الموقعين: ٢ /٩٨ (٣) الاعتصام للشاطبي: ٢ /١٠٦