وفي كلام الشاطبي رد على ما ذهب إليه ابن رشد من أن الفعل لا يفيد التواتر إلا إذا اقترن بالقول ورد عليه أيضًا في قوله: إفادة الأفعال للتواتر عسير، بل لعله ممنوع (١) قال الشاطبي: وكل ما جاءك مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه وهذا يرد ما صرح به الآمدي وغيره من اعتبار عمل أهل المدينة كعمل غيرهم لأن عملهم معزز بالمشاهدة والاتباع، ففي المدينة انتهاء الوحي وفيها انتهت الرسالة واستقرت، فكان أهلها أعلم بما كان عليه الرسول وصحبه ومن تبعهم إلى عصر مالك بن أنس ودعوى مخالفة مالك للحديث، فقد أبطلناه بأن مالكًا إذا ثبت الحديث عنه وصح لا يتركه بحال، وإن ثبت، ولكن بطريق الآحاد قدم عيه عمل أهل المدينة لأنه لا يعقل أن يعمل بقول الفرد الواحد ويترك الجم الغفير على أن ما اعتاده الناس لا يصرفون عنه إلا بدليل صريح قاطع، فإن لم يوجد، فإن الناس يتركون على ما هم عليه ما دام لم يخالف فعلهم دليلا شرعيًّا، وهذه قاعدة يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في بلد أهلها هم أعرف الناس بالسنة النبوية ومقاصد الشريعة وأكثر الناس اقتفاء واقتداء لخطى رسول الله صلى عليه وسلم وأشد الناس اتباعًا وأبعدهم من الابتداع.
وإذا أوضحنا مقصد مالك في الأخذ بعمل أهل المدينة وأدركنا الغاية التي أرادها من أن عمل أهل المدينة هو العرف والعادة التي تسلسل العمل بها عبر الأجيال وتابع الناس عليها اتباعًا وتقليدًا لا اجتهادا حتى ينتهي إلى عصر الصحابة وزمنه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إجماعا لأن الجماع لا يكون تبعيًا كما يقول ابن خلدون، وحيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر بعض الأعراف وأبقى عليها، ولم يمنع منها إلا ما صادم الشرع أو تعارض مع مبادئه وأصوله وأن كل المذاهب الرئيسية قد حكمت العرف واعتبرته في كثير من القضايا، ولم يقف ضد هذا المنزع إلا من لا يعتد برأية، وقد تقدم أن بينا أن مراعاة عادات الناس وأعرافها التي لا فساد فيها هي ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركها عالم من العلماء المحققين، بل يجب الأخذ بها وأنه ليس لأحد أن يمنعهم من الأخذ بها إلا بنص يحرمها ويمنعها، وحيث لا نص فلا بد من مراعاة أعرافهم وعاداتهم إذ مخالفتهم تؤدي بهم إلى الحج والمشقة والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(٢) .
(١) بداية المجتهد لابن رشد: ١ /١٢٦ (٢) سورة الحج: الآية ٧١