على أن الإمام مالك لم يقل أصلًا بأن عمل أهل المدينة هو إجماع بمعنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث من مصادر التشريع إذ تعابيره في الموطأ لا تخرج عن قوله:(هذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا، أو الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، أو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أو ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس أو السنة عندنا، أو وليس على هذا العمل عندنا، أو الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أو السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أو السنة التي عندنا والتي لا شك فيها، أو قوله وليس العمل على هذا) هذه هي الصيغ التي استعملها مالك في موطئه قاصدًا بها عمل أهل المدينة، وكل هذه الصيغ العشر لا تفيد معنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، ولقد تكررت هذه الصيغ في الموطأ مائتين وثلاثة وثلاثين مرة ولا يفهم من جميعها إلا العمل، أي عمل الناس الذي كان أهل المدينة سائرين عليه في عصره وقبل عصره فهو حينئذٍ بهذه العبارات يصف عمل بلده وما اعتاده قومه وتعارف لديهم وساروا عليه ومالك رحمه الله يعلم علم اليقين أنه ليس كل من كان من أهل المدينة هو من العلماء المجتهدين من أهل الحل والعقد ولو كان المراد الإجماع، لما عد المالكية الإجماع مصدرا ثالثًا، ثم جعلوا عمل أهل المدينة مصدرًا قائمًا بنفسه إلى جانب الإجماع، وإلا لكان ذلك من ذكر الشيء الواحد مرتين نص على ذلك القرافي في تنقيحه والمقري في قواعده القاعدة ١١٧ والقاعدة ٤٥٩ والقاعدة ٦٣٥، وكذلك الونشريسي في المعيار (١) ، فما ذكره مالك في عمل أهل المدينة هو بمثابة العرف الذي يوجد في أي مكان، ولذلك قال ابن خلدون: ولو ذكرت المسألة (يعني عمل أهل المدينة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب) لكان أليق (٢)
ويرد ابن خلدون على الذين فهموا أن مراده في ذلك الإجماع، فيقول: وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة، والفرق بين الإجماع وبين عمل أهل المدينة أن الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور بحيث لا يجوز مخالفته بحال من الأحوال بقطع النظر عن أن يكون عن دليل فعلي أو عقلي، أما إجماع أهل المدينة فهو اتفاقهم في فعل أو ترك مستندين فيه إلى مشاهدة من قبلهم فمالك يقول بهذا الاتفاق وما عليه أهل المدينة في عهده إذا تحقق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، فهذا العمل الذي عليه أهل المدينة يرفع الخلاف ويرجح ما هم عليه من غيرهم من المذاهب على أن مالكًا هو أكثر الناس تحرجا من البدع والشبهات وتمسكًا بما عليه الصحابة والتابعون، وإنما يرجح عمل أهل المدينة على غيرهم لأن أهلها أقرب إلى صفاء التشريع ونقاوته، وهم أبعد الناس عن أن يكونوا على ضلالة من أمرهم وهم أقرب عهد بالرسول وأصحابه وأتباعهم، وهذا شبيه بما كان عليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة حين كان يقدم العرف على الحديث ويقول: إن الحديث ليس إلا تأكيدًا أو إقرارًا للعرف الذي كان فيعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لو وجد عليه الصلاة والسلام هذا العرف قد تغير تغيرًا موافقًا لأصل الدين لأقره، ومثل هذا فعل الشافعي، فقد أخذ بكثير من عمل أهل مكة وكذلك ينقل عن أبي حنيفة في حكمه بعمل أهل العراق، نقل ذلك الشيخ الحجوي في كتابه الفكر السامي (٣) وإذا كان هؤلاء الأئمة اعتبروا عرف هذه البلدان فعمل أهل المدينة أولى بالاعتبار، ثم إن العمل الذي كان بالمدينة شائعا على عهد مالك رضي الله عنه منه ما كان معمولا به على الدوام وهو الذي قال فيه ابن رشد في مقدماته وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل به فهو عنده أي مالك مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وبها توفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتوافرون فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علموا النسخ فيه (٤) .
(١) المعيار للونشريسي: ٢ /٢٧٢ (٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤٤٥ (٣) الفكر السامي، للشيخ الحجوي: ٢ /١٦٧ (٤) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد ط بيروت ٢ /٥٦٥