للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه النقول وإن أثبتت التغير الذي حصل بالمدينة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده وما حدث من فساد وما دخلها من تغيير وتبديل، فإنها ليست فيها حجة على إبطال عمل أهل المدينة بطلاق لأن الاختلاف فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية لم يقع كثيرًا إلا في المسائل الاجتهادية كاختلاف اجتهاد بعض الخلفاء، واختلاف الخلفاء الراشدين هو من قبيل السنة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عيها بالنواجذ)) ثم إن مالكًا رحمه الله لا يعتمد العمل إذا كان مخالفًا للمروي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقول كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، وهو أيضًا القائل: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا ما في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة من ذلك فاتركوه (١) إلا أن الإمام رضي الله عنه يرى أن عمل أهل المدينة في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها يرجح الخلاف ويوجب اختيار القول بعملهم على غيره من المذاهب، على أن الإمام كان إمامًا في الحديث يعرف دواعى التجريح والترجيح وما كان من البدع المستحدثة مما هو من السنة المتبعة، وقد شهد في علمه وصلاحه ومعرفته بالسنة الجم الغفير مما لا يبقى معه شك أن يقول بعمل ويحتج به وهو بدعة من البدع معاكس لما جاءت به السنة وهو من أشد الناس عملا بالسنة ورفضًا للبدعة، أما ما ورد من الأحاديث المروية في الموطأ وغيره، ولم يأخذ بها مالك فلم يكن ذلك عن هوى وإنما كان عن معرفة وعلم ولا يكون إلا عن مستند صحيح ظهر له فهو الخبير بالصحيح من الحديث والسقيم، وهو حجة في هذا الباب وعالم أهل الحجاز ولم يبلغ أحد في زمانه مرتبته في العلم بالحديث والسنة والرجال، فكان من أشد الناس انتقادا لهم فلا يبلغ من الأحاديث إلا ما كان صحيحًا ولا ينقل إلا عن ثقة وفي المدارك للقاضي عياض من الأدلة على ذلك ما يشفي الغليل وكان من قول مالك رحمه الله ما رواه الناس مثل ما روينا فنحن وهم سواء ما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم (٢) .

قال ابن عبد البر ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه يباشر مثله أو إجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ولو فعل ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إمامًا ولزمه إثم الفسق، قال هذا في الرد على الليث بن سعد فيما ادعاه من أن مالكًا خالف السنة في سبعين مسألة قال فيها برأيه (٣) ، فنحن نرى الحافظ ابن عبد البر يستبعد صدور المخالفة من مالك للحديث الذي يرويه ثم يعمل بخلافه دون أن يكون له سند يعتمد عليه ويعول عليه من نسخ أو ترجيح.


(١) ترتيب المدارك: ١ /٤٥
(٢) ترتيب المدارك: ١ /٤٥
(٣) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ ابن عبد البر: ٢ /١٠٠٢، ط المنيرية بمصر

<<  <  ج: ص:  >  >>