ولقد تحامل ابن حزم على من يرى أن أهل المدينة كانوا أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عيه وسلم من سواهم واتهمهم بالكذب والباطل. وإن الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العالمون بأحكامه لا فرق بين من كان في المدينة أو في غيرها، واعتبر أن ادعاء أن أهل المدينة هم الذين شهدوا آخر حكمه عليه السلام وعلموا ما نسخ منها مما لم ينسخ اعتبر ذلك بأنه تمويه فاحش وكذلك ظاهر وأن الكل في ذلك سواء لا فرق بين المقيم بها والخارج منها، ثم يتعجب من التمويه بعمل أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذونه بسواه، ثم يدعي أنهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة عمل وابن عمر وعائشة وعثمان وسعيد بن المسيب وغيرهم، وأنهم تركوا عمل أهل المدينة في كثير من المسائل، ثم بعد ذلك تخلص إلى أن هذا لا يجوز تقليدًا لخطأ مالك في ذلك ويقول: لا سبيل إلى أن يوجد عمل أهل المدينة إذ لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة، وفيها مع ذلك الخلاف، ولقد تتبع الأحاديث التي رواها المالكية ولم يعملوا بها وقدموا العمل عليها مع أنه رواها الإمام مالك في الموطأ فمن ذلك أنهم رووا أن آخر عمله صلى الله عليه وسلم كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه، فقالوا: الصوم أفضل وكان آخر عمله صلى الله عليه وسلم أم بالناس جالسًا وهم أصحاء وراءه إما جلوس عند الظاهرية أو قيام عند غيرهم مع أنهم قالوا ببطلان الصلاة في ذلك، وكذلك ما ورى من أنه عليه السلام إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا بإبطال ذلك حتى يتدلك ورووا أنه كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا وقع فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّ الناس فأتم أم القرآن، قال:((آمين)) ، فقالوا: ليس عليه العمل إلى غير ذلك من الروايات التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعملوا بها وبهذا يبطل على رأيه من اتباع عمل أهل المدينة، ويثبت بذلك أنهم أترك الناس لعمل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده وزاد فعدد على المالكية مخالفتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وذكر أنهم رووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه عشر قضايا خالفوه في ثمانية منها (١) ، رووا عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة في ركعتين ووراءه الأنصار والمهاجرون من أهل المدينة، فقالوا: ليس عليه العمل فخالفوا بذلك عمل الخليفة الأول، ورووا عن عمر أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه من أهل المدينة المهاجرون والأنصار، فقالوا: ليس عليه العمل.
(١) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: ١/٢٢٢