للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم انتقد مذهب مالك، فقال: فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم، بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل مازالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون، والعبرة بقول الأكثرين ,وقد أفسدناه أو يقول اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشد عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير واستقصيناها في كتاب تهذيب الأصول (١) وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكانهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، ثم إن الغزالى في نفس الكتاب يقول: أن الخير إاذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رواه مالك حجة وإجماعًا أن لم يصح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم، ثم إن ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى يختلف عما قاله في المنخول، فقد ذكر في المنخول أن الإجماع الذي قصده مالك هو عمل الفقهاء السبعة، قال: صار مالك رضي الله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة وهم فقهاء المدينة ولا تبالي بخلاف غيرهم وقدم مذهبهم على النص (٢) .

وكلام الغزالي ككلام الإمام الشافعي مضطرب فبعد أن أثبت أن لا وجه لكلام الإمام مالك عاد فأثبت أن الخبر إذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى. أما سيف الدين الآمدي فقد ذكر في الأحكام أن الأكثرين اتفقوا على أن إجماع أهل المدينة وحده لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فقال: هو حجة، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيره ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته، ومنهم من قال: أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمختار مذهب الأكثرين ذلك أن الأدلة على كون الإجماع حجة متناولا لأهل المدينة والخارج من أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة (٣) .

ولقد كان أشد الناس انتقادًا لعمل أهل المدينة ابن حزم، حيث ذكر أن عمل أهل المدينة قبل مولد الإمام مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس، وقد ذكر ابن حزم تعدي العمال بالمدينة وفشو الشكوى في أيام الصحابة رضوان الله عليهم وأن لهذه الأسباب وغيرها يبطل قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة (٤) ، وهو يرى أن اعتبار أهل المدينة حجة على غاية الفساد وإن من احتج به، وقال به اعتمد على أحاديث منها ما هي مكذوبة ومنها ما هو حسن وإن كل ما احتجوا به فيه نظر ولا حجة فيه وجعل مكة أفضل البلاد ولم يكن ذلك موجبا لاتباع أهلها ولا أن إجماعهم إجماع دون غيرهم ولا أنه حجة على غيرهم (٥) .


(١) المستصفي، للإمام الغزالي: ١ /١٨٧، ط المبطعة الأميرية: ١٣٢٢هـ
(٢) المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي تحقيق محمد حسن: ص ٣١٤
(٣) الأحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآدمي. ١ / ٣٤٩
(٤) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: ٢ /٨٥٤
(٥) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: ١ /٥٥٢

<<  <  ج: ص:  >  >>