للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمنصوص عن الشافعي، وعند أحمد ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين وجعل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع مذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعملها ولأصحاب أحمد وجهان، فالقاضي أبو يعلى وابن عقيل لا يرجح، والثاني قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به وهذا هو المنصوص عليه من كلامه ومن كلامه إذا رأى أهل المدينة حديثًا وعملوا به فهو الغاية وكان يفتى على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرًا كثيرًا، وكان يدل المستفتي على مذهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، قال ابن تيمية: فهذه مذاهب جمهور الآئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. أما المرتبة الرابعة: وهو العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، قال ابن تيمية: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجتمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يثير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، قال ابن تيمية: وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تتفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة يكون حجة قوية، وتارة مرجحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، وقد أطنب ابن تيمية في بيان ذلك أي أطنان (١)

ولما نقلنا نرى البخاري يستفتح الباب بحديث مالك وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، أما ابن القيم فيذهب إلى أن عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار وإن من كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإن الحجة في اتباع السنة وإنه لا تترك سنة لعمل على خلافها وإن السنة هي المعيار على العمل ولا عكس وإن العصمة لا تثبت لمصر من الأمصار وأن لا تأثير للجهات والجدران والمساكن وإنما التأثير لأهلها وسكانها وإن الصحابة شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لا يظفر به غيرهم ممن بعدهم فهم المقدمون على من سواهم كما أنهم مقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صار إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وعبادة وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية ويقول: فكيف يكون قول هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا لم يخرجوا وخالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا وإذا خرجوا وفارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ثم يقسم عمل أهل المدينة إلى أقسام ثلاث: (١) - أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم (٢) - خالف فيه أهل المدينة وغيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه، (٣) - قسم فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم، ثم جعل الأول حجة يجب اتباعه والثاني والثالث لا دليل عليه (٢)

ثمَّ بعد ذلك يقع فيما وقع فيه الغزالي إذ هو لا يلتزم هذا التقسيم في الطرق الحكيمة ويرى أن ما عليه أهل المدينة هو أصح وأصوب وأن قولهم هو الحق الذي يدين الله به ولا يعتقد سواه (٣) وأنه من أشد المذاهب وأصحها. (٤)

ولقد تعرضت كتب الأصول إلى مسألة عمل أهل المدينة وحجيته ومذاهب العلماء في ذلك، فالشافعي في كتابه الأم انتقده شديد الانتقاد ورأى أن الإجماع المعتبر إنما هو إجماع الأمة لا إجماع أهل بلد هو المدينة أو غيرها ومجمل رأيه ينصب على كون المالكية رووا الحديث ولم يعملوا به ويرى أن ذلك من باب التناقض وإلا فكيف يروون الحديث ولا يعملون به، وقد صح عندهم فيقول: قد خالفتم في القراءة في الصلاة كل ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم ابن عمر، ثم عثمان ولم ترووا شيئًا يخالف ما خالفتم عن أحد من الناس علمته فأين العمل؟! خالفتم من جهتين: جهة التثقيل وجهة التخفيف، وقد خالفتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما رويتم عن الأئمة بالمدينة بلا رواية رويتموها عن أحد منهم، هذا مما يبين ضعف مذهبكم إذ رويتم هذا ثم خالفتموه، ولم يكن عندكم فيه حجة، فقد خالفتم الأئمة والعمل وإنه لا خلاف أشد خلافًا لأهل المدينة منكم، ثم خلافكم ما رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض طاعته وما رويتم من الأئمة الذين لا يجدون مثلهم فلو قال لكم قائل: أنتم أشد معاندة لأهل المدينة، وجد السبيل إلى أن يقول ذلك لكم على لسانكم لا تقدرون على دفعه عنكم ثم الحجة عليكم في خلافكم أعظم منها على غيركم لأنكم ادعيتم القيام بعملكم واتباعكم دون غيركم، ثم خالفتموهم بأكثر مما خالفه به من لم يدع من اتباعهم ما ادعيتم فلئن كان هذا خفي عليكم في أنفسكم إن فيكم لغفلة ما يجوز لكم معها أن تفتوا خلقًا والله المستعان وأراكم قد تكلفتم الفتيا وتطاولتم على غيركم ممن هو أقصد وأحسن مذهبًا منكم (٥)


(١) مجموع فتاوى ابن تيمية: ١٠ / ٣٠٣ –٣٤٠
(٢) إعلام الموقعين: ٢ /٢٤٠، ٢٤١
(٣) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص ٢٣
(٤) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص ١٠٤
(٥) الأم، للإمام الشافعى: ٧/١٨٨- ١٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>