ولقد قسم المالكية عمل أهل المدينة إلى قسمين ما كان طريقه النقل والحكاية وهو ما نقله الكافة عن الكافة عمل به عملًا لا يخفي متواترًا من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتصلا به وهو إما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل كالصاع والمد وكونه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منهم مال الزكاة وكالأذان والإقامة والأوقاف والأحباس ونحوها فهذا النقل لهذه الأشياء مما علم ضرورة من أحواله وسيرته أو كان من إقراره لأصحابه لما يشاهده منهم ولم يثبت إنكاره، أو كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع اطلاعه عليها ووجودها عندهم بكثرة، فهذا النوع حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر الواحد والقياس لأن هذا النقل محقق موجب للعلم القطعي فلا يترك بالنصوص الظنية وهذا ما رجع إليه أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة بعد مناظرته لمالك وربما هذا الذي قال فيه ابن العربي مهما اختلف الناس في إجماع أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجتمعون على نقله من طريق الأثر (١) وهذا النوع هو الذي قال فيه القاضي عياض إن هذا النوع لم يخالفه من أهل المدينة إلا من لم يبلغه النقل (٢) وحكى عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي أن ليس فيه خلاف بين المالكية والذي وافق عليه كثير من أصحاب الشافعي وقد رد القاضي عياض على المخالفين لهذا النوع بأنه من قبيل الفساد وأنه لا يمكن مقارنته بعمل غيرهم إذ هذا النقل من العمل لا يوجد إلا عند أهل المدينة (٣) .
القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال وهذا النوع قد اختلف فيه أهل المذهب فجمهورهم ذهب إلى أنه ليس بحجة ولا يرجح على غيره، بل فيهم من بنى أن مالكًا قال به ولا هو من مذهبه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة ولكن فيه قوة الترجيح يرجح على اجتهاد غيرهم، وذهب آخرون إلى أن هذا النوع هو حجة أيضًا وحكوه عن مالك وأخذ به كثير من المغاربة والمشارقة ورأوه مقدمًا على خبر الواحد والقياس، والأول أرجح عند محققي المالكية، أما القاضي عياض فقد قسم عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد فقال: إن كان مطابقا لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل أو ترجحها إن كان من طريق الاجتهاد. ولا خلاف في هذا فأما إذا كان مطابقًا لخبر ومعارضا لخبر آخر كان عمل أهل المدينة مرجحًا لخبرهم وهو أقوى ما يترجح به الأخبار إذا تعارضت وهذا هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني ومن تابعة من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم صرح بذلك الغزالي (٤)
(١) القبس، لابن العربي مخطوط: ص ٢٠٤ (٢) المدارك: ١ /٤٩ (٣) المدارك: ١ /٤٩ (٤) المستفصى، للغزالي: ١ /٢١٤، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا