أما بالنسبة للأدلة المأثورة فقد ردوها بأن اشتمال المدينة على صفات موجب للفضل لا يدل على انتفاء الفضيلة من غيرها ولا على صحة الاحتجاج بإجماع أهلها، لأن المعتبر في التشريع إنما هو العلم بالأحكام المستفادة من الاجتهاد وليس لفضل البقعة وطهارتها مدخل في ذلك، ونحن إذا نظرنا إلى الردود التي ذكروها نجدها تنصب على الإجماع وليس عمل أهل المدينة إجماعًا واعتماد مالك رحمه الله العمل نفسه لا الإجماع الذي هو المصدر الثالث في مصادر التشريع إذ هو بعد الكتاب والسنة، فقد روى عنه ابن أخته إسماعيل بن أويس، قال: ما رأيت الأمر عندنا فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم وكذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قال فيه بعض أهل العلم فهو شيء استحسنته ونظرت على مذهب من لاقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلى بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لاقيته، فبذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره (١)
ويظهر ما نقلنا أن مالكًا لم يقصد من عمل أهل المدينة الإجماع، وعمل أهل المدينة يؤيده اتباع السلف لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه فبالمدينة كانت آخر حياته وآخر أعماله ودعوى أن أصحاب رسول الله انتشروا في الأقطار وأن المدينة لم تجمع جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها فهذا مردود بما صرح به الإمام إذ قال مستفسرًا نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفا من الصحابة مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرقوا في البلدان فأيهم أحرى أن يتبع ويؤخذ بقوله؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذي ذكرت أو من مات عندهم واحد أو اثنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (٢) .
على أن عمل أهل المدينة قد قال به من سبق مالكًا فهذا عمر بن الخطاب يقول أحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثًا العمل على خلافه. وعن مالك: قد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم من غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره.
وكان أبو بكر بن حزم إذا قضى قضاء قد جاء فيها الحديث مخالفًا للقضاء يعانيه أخوه عبد الله ويقول: ألم يأتِ في هذا الحديث كذا فيقول بلى فيقول له أخوه فمالك لا تقضي به فيقول: فأين الناس منه؟ يعني بذلك ما أجمع عليه من العمل بالمدينة يريد أن العمل به أقوى من الحديث.