للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما دليل المالكية من الأثر فقد روى مالك عن أنس أن المدينة محفوفة بالشهداء وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله اختارها له وجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، قال القاضي عياض: وهذا الكلام لا يقوله مالك من نفسه إذ لا يدرك بالقياس، وقد سأل جعفر بن محمد مالكًا عن اختياره السكنى بالمدينة وتركه الريف والخصب فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة وسأل أبو مصعب الزهري مالكًا عن لين قلوب أهل المدينة وقساوة قلوب أهل مكة، فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه، وعن زيد بن ثابت إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عما مضى لعله يعلم بما عندهم، وعن أبي بكر بن عمر وابن حزم: إذا وجدت أهل هذا البلد (يعني المدينة) أجمعوا على شيء فلا تشُكَنَّ أنه الحق وعن الشافعي إذا وجدت معتمدًا من أهل المدينة على شيء فليس فيها حيلة من صحتها، ومنها ما في رسالة مالك إلى الليث بن سعد فمما جاء فيها: إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويبين لهم فيتبعونه حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده من اتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل ويتبعون تلك السنن فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أرَ لأحد خلافه الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها (١)

أما دليل المالكية من العقل فقد استدلوا، بأن العادة قاضية بعد اجتماع مثل هذه الكثرة من الموجودين في مهبط الوحي الواقفين على وجوه الأدلة والترجيح إلا عن راجح، وأن المدينة دار الهجرة وموضع قبره ومهبط وحيه ومستقر الإسلام ومجتمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها، وأن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال النبي من غيرهم فيبعد أن يخرج الحق عنهم، وأن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان عملهم حجة على غيرهم، وقد رأى كثير من أهل العلم أن ما ورد من الأحاديث والآثار الواردة في فضل أهل المدينة لا تقوم دليلًا ولا تنهض حجة على قيام العمل والاستدلال به في الأحكام كما أنها لا تصح سندًا ودليلًا يرجع إليه واعتبروا عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار سواء سواء، وقد ردُّوا على كل دليل من الأدلة المتقدمة بخصوصه، وكل هذا مذكور في كتب الأصول التي ذكرت الأدلة وردودها.


(١) المدارك: ١ /٤٢، إعلام الموقعين: ٣ /٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>