للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالنص محفوظ في صدورهم والعمل شائع بين ظهرانيهم يشترك في ذلك صغيرهم وكبيرهم ويتناقله الأبناء عن الآباء كل هذه الأمور جعلت مالكًا يلاحظها ويعتد بها ويتخذها مطية للتشريع إذا لم يجد نصًّا يسير عليه أو وحده ولكنه لم يطمئن إليه حيث يرى أن تقديم الجم الغفير أولى أن يتبع وأن يقدم على خبر الآحاد إذ لا تصل روايته في القوة إلى ما أطبق عليه المجتمع المدنى بأسره فكان إذا اختلفت الآراء أو اختلفت الآثار وتعارضت النصوص اعتمد على ما كان عليه أهل المدينة.

وقد استدل مالك على تقديمه عمل أهل المدينة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما سار عليه الصحابة والتابعون من بعده كما فصل ذلك القاضي عياض (١) وكما استدل أصحابه على عمل أهل المدينة بأدلة من السنة والأثر والعقل فمن السنة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأهلها وما ورد فيها من الفضائل ودعاؤه لها ومن ذلك ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشهدتها إلا كنت له شفيعًا - أو شهيدًا - يوم القيامة)) (٢) وما رواه جابر بن عبد الله وأبو هريرة: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) وروى بروايات مختلفة اللفظ متفقة المعنى وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) .

وقد نقل القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك مجموعة من الأحاديث تثبت فضل المدينة وأهلها عن مجموعة من الصحابة كزيد بن ثابت وسفيان بن زهير وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة وأبي سعيد المقبري وعائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لينحازن الإسلام إلى المدينة كما يجوز السيل الدمن)) وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأزر الإيمان إلى المدينة كما تأزر الحية إلى حجرها)) ، وقد فسر قاضي المدينة أبو مصعب الزهري هذا الحديث فقال: والله ما يأزر إلا إلى أهلها الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأرض والدور وما ذلك إلا مدحًا لأهلها وتنبيهًا إلى أن ذلك باقٍ فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون وفسر الإمام مالك قوله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ بعودته إلى المدينة كما بدأ منها وقد أطال القاضي عياض في كتابه المدارك بما لا مزيد عليه.


(١) المدارك للقاضي عياض: ١ /٤٩
(٢) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، حلبي: ١ /٨٣

<<  <  ج: ص:  >  >>