للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق والتي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة الفعلية وهو المسمى علم الاستدلال بفساد الوضع وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابته في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية (١) .

وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتاب النجاة فقال: ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيًّا ولم يعتقد مذهبًا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسية، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ثم يعرض على مذهبه شيئًا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ووصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة الفعلية وأما تشريعاته وتفاريعه فهي إما أمور فطرية أيضًا أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به وإما أن يكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته وقوانين المعاملات فيه راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة والوجدان في الإنسان القلبي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتبارات ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات لأنها ليست مما فطر العقل عليها. ولكن مما عرض للفطرة عروضًا كثيرًا حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت الفطريات وإنما كان عروضها للفطرة بسوء استعمال العقل وبسوء فهم الأسباب، ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتبارات ولا نجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات، بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشد مقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهل العقول الراجحة في سلامة منهما، ويتفرع من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة والحضارة الحقة من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير وفي الفطرة حسب ظهور ما تولد من الخلقة، وإذا أجلنا النظر والمقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها ولعل ما أفضى إلى فرق عظيم فيما يعد في الشرع محذورًا وممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا وما كان دون ذلك من الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة (٢) وما لا يمسها مباح ثم إذا تعارضت مقتضيات الفكرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وإيفائها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك وكان الترهيب منهيًّا عنه وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا، ومن هنا نعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمنا أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (٣) .


(١) التحرير والتنوير: ١ و ٢ /٩٠
(٢) مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص ٥٦ – ٦٠.
(٣) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ٥٦ – ٦٠

<<  <  ج: ص:  >  >>