فَقَدْ تَرَكَّبَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، الْأَوَّلُ: تَوْكِيدُ الْمَجْزُومِ بِلَمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي:
إِبْدَالُهَا أَلِفًا، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْوَقْفِ، فَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ: حَذْفُ الْأَلِفِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَخَرَّجَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ بِلَمْ وَيَجْزِمُونَ بِلَنْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا ... وَلَمْ يُشَاوِرَ فِي إِقْدَامِهِ أَحَدًا
بِنَصْبِ الرَّاءِ مِنْ يُشَاوِرُ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مَا أَظُنُّهَا تَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّتْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللُّغَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنَّهَا جَاءَتْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ بِأَسْرِهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقِرَاءَةُ هَذَا الرَّجُلِ مَعَ شِدَّةِ جَوْرِهِ وَمَزِيدِ ظُلْمِهِ وَكَثْرَةِ جَبَرُوتِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ بِالِاشْتِغَالِ بِهَا. وَالْوِزْرُ: الذَّنْبُ، أَيْ: وَضَعْنَا عَنْكَ مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى حَطَطْنَا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١» ثم وصف هذا الوزر فقال: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ أَثْقَلَ ظَهْرَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَثْقَلَهُ حَتَّى سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ، أَيْ: صَوْتٌ، وَهَذَا مِثْلُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَمْلًا يُحْمَلُ لَسُمِعَ نَقِيضُ ظَهْرِهِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: أَنْقَضَ الْحَمْلُ ظَهْرَ النَّاقَةِ إِذَا سُمِعَ لَهُ صَرِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:
وحتّى تداعت بالنّقيض حباله ... وهمّت بواني زَوْرِهِ «٢» أَنْ تَحَطَّمَا
وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَأَنْقَضَ ظَهْرِي مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمْ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنَا
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُنُوبٌ قَدْ أَثْقَلَتْهُ فَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ، وَقَوْمٌ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا تَخْفِيفُ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ الظَّهْرَ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا سَهَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ وقرأ ابن مسعود: «وحللنا عنك ووقرك» .
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنَّتَهُ عَلَيْهِ وَكَرَامَتَهُ فَقَالَ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ قَالَ الْحَسَنُ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ يَعْنِي بِالتَّأْذِينِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: ذَكَّرْنَاكَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، وَقِيلَ: رَفَعْنَا ذِكْرَكَ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرفع لذكره
(١) . الفتح: ٢.(٢) . «بواني زوره» : أي أصول صدره.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute