الْأَجَلِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ نَاسٌ: قَدْ رُدَّ، وَقَدْ كَانَ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَيَدْخُلُهَا فَكَانَتْ رَجْعَتُهُ فِتْنَتَهُمْ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالرَّاجِحُ كَثْرَةً وَصِحَّةً هُوَ كَوْنُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ كَثِيرٍ إِجْمَاعَ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا، وَفِي تَفْسِيرِ الشَّجَرَةِ وَأَنَّهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهِلٍ لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَخْوِيفًا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ:
عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزُّبْدِ. وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَمْكَنَّا مِنْهَا لَنَزْقُمَنَّهَا تَزَقُّمًا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ- طَعامُ الْأَثِيمِ «١» ، وَأَنْزَلَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ قال: ملعونة لأنه قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ والشياطين ملعونون.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ هَذِهِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ سَنَّهَا إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْحِجْرِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَالْكَهْفِ، وَطَه، وَص، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا مَبْسُوطًا، فَلْنَقْتَصِرْ هَاهُنَا عَلَى تَفْسِيرِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُ: طِيناً مُنْتَصِبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ طِينٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ طِينًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَرَأَيْتَكَ أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ لِمَ فَضَّلْتَهُ؟ وَقَدْ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «٢» فَحُذِفَ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أَيْ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُهُ مِنِ احْتِنَاكِ الْجَرَادِ الزَّرْعَ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَأْصِلَهُ بِأَحْنَاكِهَا وَتُفْسِدَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ سُمِّيَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الشَّيْءِ وَأَخْذُهُ كُلَّهُ احْتِنَاكًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
لَأَسُوقَنَّهُمْ حَيْثُ شِئْتُ، وَأَقُودَنَّهُمْ حَيْثُ أَرَدْتُ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَنَّكْتُ الْفَرَسَ أُحَنِّكُهُ حَنْكًا إِذَا جَعَلْتَ فِي فِيهِ الرَّسَنَ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:
(١) . الدخان: ٤٣ و ٤٤.(٢) . الأعراف: ١٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute