وَيَتْرُكُ الطَّلَبَ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شيء، الخالق، الرزاق، الْمُعْطِي، الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَخَاتَمُ الرُّسُلِ، يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لغيره، وكيف يملكه غيره- من رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ- لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ، فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا يَتَنَبَّهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَدْلُولِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّازِقُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ. وَكَفَاكَ مِنْ شَرِّ سَمَاعِهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُطَهِّرٌ شَرِيعَتَهُ مِنْ أَوَضَارِ الشرك وأدناس الكفر، ولقد توسّل الشَّيْطَانُ، أَخْزَاهُ اللَّهُ، بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «١» إنا لله وإنا إليه راجعون- ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ حَدًّا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُونَهُ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ فَقَالَ:
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَجَازَى كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِمَّنْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِمْ، أَوْ بَيْنَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، أَجَلًا مُعَيَّنًا وَوَقْتًا خَاصًّا يَحِلُّ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ ساعَةً أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَقْدِمُونَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ «٢» وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ فَلَا نُعِيدُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَالَ: يَعْرِفُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الْآيَةَ، قَالَ: سُوءَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلُ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قال: يوم القيامة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٠ الى ٥٨]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
(١) . الكهف: ١٠٤.(٢) . الحجر: ٥. [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute