وحاجتهم فَجَاءَتْ كَمَا يُرِيدُونَ فِي الشَّكْلِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ والشّعبي وزيد ابن عليّ وعبيد بن عمير وأبو عمرو، وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ «قُدِّرُوهَا» بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: جُعِلَتْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِرَادَتِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، قَالَ: لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ لَا قَدَّرُوهَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قُدِّرُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: التَّقْدِيرُ: قُدِّرَتِ الْأَوَانِي عَلَى قَدْرِ رَيِّهِمْ، فَمَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنْ يُقَالَ:
قُدِّرَ رَيُّهُمْ مِنْهَا تَقْدِيرًا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ فَصَارَ: قُدِّرُوهَا. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ قَدَرُوا عَلَيْهَا فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
آلَيْتُ حُبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرُ آكُلُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
أَيْ: آلَيْتُ عَلَى حُبِّ الْعِرَاقِ وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَأْسَ هُوَ الْإِنَاءُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَإِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْخَمْرِ فَلَا يُقَالُ لَهُ كَأْسٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كَأْسًا مِنَ الْخَمْرِ، مَمْزُوجَةٌ بِالزَّنْجَبِيلِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَلِذُّ مَزْجَ الشَّرَابِ بِالزَّنْجَبِيلِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
الزَّنْجَبِيلُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الَّتِي يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ زَنْجَبِيلٌ لَا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيَا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا انْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كَأْسًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ عَيْنٍ، وَالسَّلْسَبِيلُ: الشَّرَابُ اللَّذِيذُ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَاسَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا شَرَابٌ سَلِسٌ، وَسَلْسَالٌ، وَسَلْسَبِيلٌ، أَيْ: طَيِّبٌ لَذِيذٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَاءٍ فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ حَدِيدُ الْجَرْيَةِ يَسُوغُ فِي حُلُوقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
يُسْقَوْنَ مِنْ وَرْدِ الْبَرِيصِ عَلَيْهِمُ ... كَأْسًا «١» يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «٢»
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ وَصْفِ شَرَابِهِمْ، وَوَصْفِ آنِيَتِهِمْ، وَوَصْفِ السُّقَاةِ الَّذِينَ يَسْقُونَهُمْ ذَلِكَ الشَّرَابَ. وَمَعْنَى: مُخَلَّدُونَ بَاقُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّبَابِ وَالطَّرَاوَةِ وَالنَّضَارَةِ، لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُخَلَّدُونَ لَا يَمُوتُونَ، وَقِيلَ: التَّخْلِيدُ: التَّحْلِيَةُ، أَيْ مُحَلَّوْنَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ ظَنَنْتَهُمْ لِمَزِيدِ حُسْنِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَنَضَارَةِ وُجُوهِهِمْ لُؤْلُؤًا مُفَرَّقًا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فِي بَيَاضِ اللَّوْنِ وَحُسْنِهِ، وَاللُّؤْلُؤُ إِذَا نُثِرَ مِنَ الْخَيْطِ عَلَى الْبِسَاطِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظُومًا. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْثُورِ لِانْتِثَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَلَوْ كَانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالْمَنْظُومِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِالْمَنْثُورِ لِأَنَّهُمْ سِرَاعٌ فِي الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُنَّ بِاللُّؤْلُؤِ المكنون لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة.
(١) . في تفسير القرطبي: بردى. وهو نهر بدمشق.(٢) . «البريص» : نهر بدمشق. «يصفق» : يمزج. «الرحيق» : الخمر البيضاء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute