وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «١» قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قِيلَ: الْمُرَادُ ذَنْبُ أُمَّتِكَ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّغَائِرُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ لَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَيْ: دُمْ على تنزيه الله متلبسا بِحَمْدِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلِّ فِي الْوَقْتَيْنِ: صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: هُمَا صَلَاتَانِ: رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، وَرَكْعَتَانِ عَشِيَّةً، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَاضِحَةٍ جَاءَتْهُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عَنِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَجُمْلَةُ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ صفة لكبر قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِي إِرَادَتِهِمْ فِيهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا هُمْ بِبَالِغِي الْكِبْرَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، أَيْ: تَكَبُّرٌ عَلَى محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَطَمَعٌ أَنْ يَغْلِبُوهُ وَمَا هُمْ بِبَالِغِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِبْرِ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ، أَيْ:
يَطْلُبُونَ النُّبُوَّةَ، أَوْ يَطْلُبُونَ أَمْرًا كَبِيرًا يَصِلُونَ بِهِ إِلَيْكَ مِنَ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَبْلُغُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فِي صُدُورِهِمْ عَظَمَةٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهَا. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِهِمْ فَقَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَيْ: فَالْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَكَيْدِهِمْ، وَبَغْيِهِمْ عَلَيْكَ إِنَّهُ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ فَقَالَ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أَيْ: أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ وَأَجَلُّ فِي الصُّدُورِ، لِعِظَمِ أَجْرَامِهِمَا، وَاسْتِقْرَارِهِمَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَجَرَيَانِ الْأَفْلَاكِ بِالْكَوَاكِبِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَا هُوَ دُونَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «٢» قال أبو العالية: المعنى لخلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ حِينَ عَظَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُوَ احْتِجَاجٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ: هُمَا أَكْبَرُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْجِدَالَ بِالْبَاطِلِ ذَكَرَ مِثَالًا لِلْبَاطِلِ وَالْحَقِّ وَأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيِ: الَّذِي يُجَادِلُ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي يُجَادِلُ بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أَيْ: وَلَا يَسْتَوِي الْمُحْسِنُ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُسِيءُ بِالْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي، وَزِيَادَةُ «لَا» فِي وَلَا الْمُسِيءُ لِلتَّأْكِيدِ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرأ الجمهور «يتذكرون» بالتحية عَلَى الْغَيْبَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا عَلَى الْغَيْبَةِ لَا عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهَا، وَحُصُولِهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَهُ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنْ إدراك
(١) . الصافات: ١٧١- ١٧٣.(٢) . يس: ٨١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute