الأربعة الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ يَزْعُمُ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ، وَالْإِدُّ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّاهِيَةُ وَالْأَمْرُ الْفَظِيعُ، وَكَذَلِكَ الْأَدَّةُ، وَجَمْعُ الْأَدَّةِ إِدَدٌ، يُقَالُ: أَدَّتْ فلانا الداهية تؤدّه أدا بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «أَدًّا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ «آدًّا» مِثْلُ «مَادًّا» ، وَهِيَ مأخوذة من الثقل، يقال: آده الحمل يؤوده أودا: أَثْقَلَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أَيْ: عَظِيمًا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْتُمْ قَوْلًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: الْإِدُّ: الْعَجَبُ، وَالْإِدَّةُ: الشَّدَّةُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالتَّرْكِيبُ يَدُورُ عَلَى الشِّدَّةِ وَالثِّقَلِ. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ قَرَأَ نَافِعٌ والكسائي وحفص وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يَكَادُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالفوقية، وقرأ نافع وابن كثير وحفص تتفطّرن بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ يَنْفَطِرْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ مِنَ الِانْفِطَارِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «١» وقوله: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «٢» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يَتَصَدَّعْنَ» وَالِانْفِطَارُ وَالتَّفَطُّرُ: التَّشَقُّقُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أَيْ: وَتَكَادُ أَنْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَتَفَطَّرْنَ وَتَنْشَقُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَتَخِرُّ الْجِبالُ أَيْ: تَسْقُطُ وَتَنْهَدِمُ، وَانْتِصَابُ هَدًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الْخُرُورَ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَتَنْهَدُّ هَدًّا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَهْدُودَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: لِأَنَّهَا تَنْهَدُّ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ هَدَّنِي الْأَمْرُ وَهَدَّ رُكْنِي، أَيْ: كَسَرَنِي وَبَلَغَ مِنِّي.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَدَّ الْبِنَاءَ يَهُدُّهُ هَدًّا كَسَّرَهُ وَضَعْضَعَهُ، وَهَدَّتْهُ الْمُصِيبَةُ أَوْهَنَتْ رُكْنَهُ، وَانْهَدَّ الْجَبَلُ، أَيِ:
انْكَسَرَ، وَالْهَدَّةُ: صَوْتُ وَقْعِ الْحَائِطِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَمَحَلُّ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً الْجَرُّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِمَعْنَى لِأَنْ دَعَوْا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ هَدًّا. وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، أَيْ: سَمَّوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، أَوْ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ، أَيْ: نَسَبُوا لَهُ وَلَدًا وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أَيْ: لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، أَوْ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا كُلُّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ آتِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقِرًّا بِالْعُبُودِيَّةِ خَاضِعًا ذَلِيلًا، كَمَا قَالَ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «٣» أَيْ: صَاغِرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَدًا لَهُ؟ وَقُرِئَ «آتي» عَلَى الْأَصْلِ لَقَدْ أَحْصاهُمْ أَيْ: حَصَرَهُمْ وَعَلِمَ عَدَدَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ: عَدَّ أَشْخَاصَهُمْ بَعْدَ أَنْ حَصَرَهُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أَيْ:
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مَالَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «٤» .
(١) . الإنفطار: ١.(٢) . المزمل: ١٨.(٣) . النمل: ٨٧.(٤) . الشعراء: ١٨٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute