وهكذا قال جل وعلا هاهنا: ﴿أَنّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾. يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون، وهذا كقوله جلت عظمته: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٣ - ٢٤] الآية وكقوله ﷿:
وقوله تعالى: ﴿إِنّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ﴾ يحتمل معنيين: (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٥] وكقوله جلت عظمته: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨]. و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخر والعذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: ﴿إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب ﵇ أنه قال لقومه حين قالوا: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها﴾ [الأعراف: ٨٨ - ٨٩] وشعيب ﵇ لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم، وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله (١).
وقوله ﷿: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ فسر ذلك ابن مسعود ﵁ بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود ﵁ على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضا عن ابن عباس ﵄ من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب ﵁، وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير (٢): حدثني يعقوب حدثني ابن علية، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن
(١) انظر تفسير الطبري ١١/ ٢٢٩. (٢) تفسير الطبري ١١/ ٢٣١.