القول بذلك، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَذَا بَطَلَ ذَاكَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وأفعاله، وأخبر بخلافته أخبار راض بذلك حامدا لَهُ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ عَهْدًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الْكِتَابَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ.
ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لبعضهم شك هل ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ، أَوْ هُوَ قول يجب اتباعه، فترك الْكِتَابَةَ اكْتِفَاءً بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَخْتَارُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَوْ كَانَ التَّعْيِينُ مِمَّا يُشْتَبَهُ عَلَى الأمة لبينه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، لَكِنْ لَمَّا دلهم دِلَالَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود.
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: ((وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بكر)) رواه البخاري ومسلم (١) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: ((أَنْتَ خَيْرُنَا وَسَيِّدُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) (٢) - وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَلَا قَالَ
أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ فِي خِلَافَتِهِ، إِلَّا بَعْضَ الْأَنْصَارِ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَمِيرٌ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمِيرٌ، وَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بالنصوص المتواترة عنه النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطْلَانُهُ.
ثُمَّ الْأَنْصَارُ جَمِيعُهُمْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ إِلَّا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لِكَوْنِهِ هو الذي كان يطلب الولاية، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى الْعَبَّاسِ وَلَا عَلَى عَلِيٍّ، وَلَا غَيْرِهِمَا، وَلَا ادَّعَى الْعَبَّاسُ وَلَا عَلِيٌّ -وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ يُحِبُّهُمَا -الْخِلَافَةَ لواحدٍ مِنْهُمَا، وَلَا أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّ فِي قُرَيْشٍ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، لَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا مِنْ غَيْرِ بَنِي هَاشِمٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِالْآثَارِ والسنن والحديث، وهو معلوم عندهم بالاضطرار.
(١) انظر البخاري ج٨ ص ١٦٩ ومواضع أُخر ومسلم ج٣ ص ١٣١٧.(٢) البخارى ج ٥ ص٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute