لأحسبك جبانا هدانا [١] قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظرا وشهدت مشهدا لا يبرح ذكره يتجدّد في قلبي، ومعذور أنا بذلك يا أمير المؤمنين غير ملوم، فقال له عثمان: وأين كان ذلك وأنى؟ فقال: خرجت في صيّابة [٢] من أشراف العرب وفتيانهم ذوي هيئة وشارة حسنة، ترتمي بنا المهارى بأكسائها [٣] القيروانات على قنو البغال تسوقها العبدان [٤] ، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروّط [٥] بنا السير في حمارّة القيظ، حتى إذا عصبت [٦] الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه [٧] وأذكت الجوزاء المعزاء [٨] ، وذاب الصّيهد [٩] وصرّ الجندب، وضاف العصفور الضبّ في وكره، وجاوره في جحره، قال قائل: أيها الركب غوروا [١٠] بنا في ضوج [١١] هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا [١٢] كثير الدغل دائم الغلل [١٣] ، شجراؤه مغنّة [١٤] وأطياره مرنّة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات [١٥] وأصبنا من فضلات المزاود [١٦] وأتبعناها الماء البارد. فلما انتصف حرّ يومنا ذلك وبينما نحن كذلك [١٧] ، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه [١٨] وفحص الأرض بيديه،
[١] الهدان: الأحمق. [٢] الصيابة: الخيار والسادة. [٣] الاكساء: جمع كسأ، وهو مؤخر كل شيء. [٤] القيروانات.... العبدان: سقط من الطبقات والأغاني. [٥] اخروط: امتد. [٦] م: نضبت؛ وعصبت: يبس ريقها وجف. [٧] شالت: نشفت. [٨] المعزاء: الأرض الغليظة. [٩] الصيهد: شدة الحر. [١٠] م: تجوزوا، وغوروا: انزلوا للقيلولة. [١١] الضوج، منعرج الوادي. [١٢] الطبقات: قديديمتنا (يعني قدامنا) . [١٣] الدغل: الشجر الملتف؛ الغلل: الماء الذي يتغلل الأشجار. [١٤] م: صحراؤه؛ والشجراء: الأشجار المتكاثفة، مغنّة: فيها غنّة لطيران الذباب وتصويته. [١٥] الكنهبلة: الشجرة العظيمة من العضاه. [١٦] المزاود: أوعية الزاد. [١٧] الطبقات: فإنا لنصف حرّ يومنا ذلك ومما طلته. [١٨] صرّ أذنيه: حددهما.