التَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى.
ثُمَّ عَذَرَ النَّاسَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ فَقَالَ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أَيْ تَمَامَ الْعَدْلِ. وَجَاءَ بِ (لَنْ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ أَمْرَ النِّسَاءِ يُغَالِبُ النَّفْسَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حُسْنَ الْمَرْأَةِ وَخُلُقَهَا مُؤَثِّرًا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ لَبِيبَةٍ خَفِيفَةِ الرُّوحِ، وَأُخْرَى ثَقِيلَةٌ حَمْقَاءُ، فَتَفَاوُتُهُنَّ فِي ذَلِكَ وَخُلُوُّ بَعْضِهِنَّ مِنْهُ يُؤَثِّرُ لَا مَحَالَةَ تَفَاوُتًا فِي مَحَبَّةِ الزَّوْجِ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، وَلَوْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِظْهَارِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَأَقَامَ اللَّهُ مِيزَانَ الْعَدْلِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ لَا يُفَرِّطُ أَحَدُكُمْ بِإِظْهَارِ الْمَيْلِ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَشَدَّ الْمَيْلِ حَتَّى يَسُوءَ الْأُخْرَى بِحَيْثُ تَصِيرُ الْأُخْرَى كَالْمُعَلَّقَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمِيلُوا مُقَدَّرٌ بِإِحْدَاهُنَّ، وأنّ ضمير فَتَذَرُوها الْمَنْصُوبَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَهْجُرُهَا زَوْجُهَا هَجْرًا طَوِيلًا، فَلَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ وَلَا هِيَ زَوْجَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ» ، وَقَالَتِ ابْنَةُ الْحُمَارِسِ:
إِنْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْلِيقُ ... أَوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقُ (١)
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ قَهْرِيٌّ، وَأَنَّ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَرْأَةِ أَسْبَابًا تُوجِبُهُ قَدْ لَا تَتَوَفَّرُ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ، فَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَلَكِنَّ مِنَ الْحُبِّ حَظًّا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يُرَوِّضَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لِامْرَأَتِهِ، وَتَحَمُّلِ مَا لَا يُلَائِمُهُ مِنْ خُلُقِهَا أَوْ أَخْلَاقِهَا مَا اسْتَطَاعَ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ لَهَا، حَتَّى يُحَصِّلَ مِنَ الإِلْفِ بِهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا اخْتِيَارًا بِطُولِ التَّكَرُّرِ وَالتَّعَوُّدِ. مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ. فَذَلِكَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهَا الْمُوصَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَوْ عَنْ إِحْدَاهُنَّ.
(١) هَذَا الرجز مَنْسُوب لامْرَأَة يُقَال لَهَا ابْنة الحمارس (بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم) البكرية وَفِي رِوَايَة:إِن هِيَ إِلَّا حظوة، وَهِي رِوَايَة إصْلَاح الْمنطق، والحظة (بِكَسْر الْحَاء) والحظوة (بِضَم الْحَاء وَكسرهَا) المكانة وَالْقَبُول عِنْد الزَّوْج. والصلف ضدها. وَالتَّعْلِيق الهجران المستمر. وَالضَّمِير فِي قَوْلهَا: إِن هِيَ، يعود إِلَى الْمَرْأَة. وَمعنى الْبَيْت أَنَّهَا إِذا تزوجت لَا تَدْرِي أتكون ذَات حظوة عِنْد الزَّوْج أَو يطلقهَا أَو يكرهها أَو يعلقها.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute