الْمَقْصُودَ بِهِ رَدُّ كَلَامٍ صَادِرٍ مِنْ مُعَيَّنٍ، وَحِكَايَةُ لَفْظٍ مُرَادٍ بِالرَّدِّ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ وَأُنَاسٌ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلَ الْعَاصِي عَلَيْهِمْ قَالُوا لَهُ: مَنِ الَّذِي كُنْتَ تَتَحَدَّثُ مَعَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ الْأَبْتَرُ، وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ ابْنُهُ الْقَاسِمُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ فَانْقَطَعَ بِمَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَكَانُوا يَصِفُونَ مَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ بِأَبْتَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، فَحَصَلَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ صِفَةِ الْأَبْتَرِ عَلَى الْمَوْصُوف وَهُوَ شانىء النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ هُوَ الْأَبْتَرُ لَا أَنْتَ.
والْأَبْتَرُ: حَقِيقَتُهُ الْمَقْطُوعُ بَعْضُهُ وَغَلَبَ عَلَى الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَيُسْتَعَارُ لِمَنْ نَقَصَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْخَيْرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»
يُقَالُ: بَتَرَ شَيْئًا إِذَا قَطَعَ بَعْضَهُ وَبَتِرَ بِالْكَسْرِ كَفَرِحَ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ ذُكُورًا، هُوَ أَبْتَرُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهٌ مُتَخَيَّلٌ بِمَحْسُوسٍ شَبَّهُوهُ بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا لِأَنَّهُ قُطِعَ أَثَرُهُ فِي تَخَيُّلِ
أَهْلِ الْعُرْفِ.
وَمَعْنَى الْأَبْتَرِ فِي الْآيَةِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي حَقِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَقَامَ وَصْفُ الْعَاصِي أَوْ غَيْرِهِ بِالْأَبْتَرِ دُونَ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ هُوَ حَيْثُ لَمَزَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَبتر، أَي لاعقب لَهُ لِأَنَّ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ لَهُ عَقِبٌ، فَابْنُهُ عَمْرٌو الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، وَابْنُ ابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ وَلِعَبْدِ اللَّهِ عَقِبٌ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْجَمْهَرَةِ» عَقِبُهُ بِمَكَّةَ وَبِالرَّهْطِ (١) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَبْتَرُ اقْتَضَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ إِثْبَاتَ صفة الأبتر لشانىء النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْيَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَبْتَرُ بِمَعْنَى الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ.
(١) كَذَا فِي طبعة «جمهرة ابْن حزم» . وَقَالَ ياقوت: الرَّهْط مَوضِع فِي شعر هُذَيْل.وَأَقُول: لَعَلَّه تَحْرِيف راهط وراهط مَوضِع بغولة دمشق. [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute