وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وقال: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الحديد: ٢١]، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى:(أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز (١) الرازي، حدثنا خارجة بن مُصعَب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة: يا رب، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة. فقال: لا أفعل. فراجعوا ثلاثا، فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن، فكان. ثم قرأ عبد الله:(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان (٢) بن سعيد الدارمي في كتابه: "الرد على الجهمية"، ولفظه: فقال الله ﷿: "لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان"(٣).
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم (ثُلَّةٌ) أي: جماعة (مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ). وقد اختلفوا في المراد بقوله:(الأوَّلِينَ)، و (الآخِرِينَ). فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله ﷺ:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"(٤). ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.
(١) في أ: "الفزاري". (٢) في أ: "عمر". (٣) وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي فرفعه كما في البداية والنهاية (١/ ٥٥) للمؤلف وقال: "وهو أصح" وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (١/ ٤٨) وقال: "هذا حديث لا يصح". (٤) لم أجد الحديث في تفسير الطبري والحديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم (٨٩٦) ومسلم في صحيحه برقم (٨٨٥) من حديث أبي هريرة ﵁.