للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما تغير الحكم فيه لتغير الزمان ما قضى به أبو حنيفة من تنفيذ من تصرفات المدين كالمصرف بالهبة والوقف وسائر وجوه التبرع ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمة المدين لا بأعيان أمواله التي تبقى حرة فينفذ فيها تصرفه، وهذا ما يقتضيه القياس والقواعد، ولكن لما فسد الناس وخربت ذممهم وكثر طمعهم وقل ورعهم، وصاروا يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها أو هبتها لمن يثقون به من أقربائهم وأصدقائهم أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنفي والحنبلي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الديون التي عليه وبذلك وافقوا مذهب مالك والشافعي وقد اتفقت المذاهب بأن لا حجر قبل الحكم بتفليسه فإذا حكم بذلك وحجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله فإن تصرف بيع أو هبة أو وقف أو أصدق امرأة مالا له أن نحو ذلك لم يصح، وبهذا قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر: يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ وإلا بطل، قال ابن قدامة: ولنا أنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرف كالسفينة ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله لا بذمته (١)

ومن هذا القبيل أيضًا أن الغاصب يضمن عين المغصوب إذا هلكت أو أصابها عيب ولا يضمن قيمة المنافع عند الحنفية لأن المنافع ليست متقومة في ذاتها وإنما تقوم بورود العقد عليها كعقد الإجارة وحيث لا عقد في العصب فلا ضمان لأنها لا مماثلة بينها وبين عين الغصب لبقاء الأعيان وذهاب المنفعة، وذهب الأئمة الثلاث إلى أن الغاصب يضمن أجرة المثل عن المال المغصوب وقد أفتى المتأخرون من فقهاء الحنفية بمثل ما أفتى به الأئمة الثلاث وذهبوا في ذلك فريقين: فريق يرى تضمن الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان مال وقف أو مال يتيم أو كان مالًا معدا للاستغلال أي الاستثمار، وهو وإن كان على خلاف القياس وذلك لفساد الناس وجرأتهم على الغصب (٢) وفريق يرى أن تضمين منافع المغصوب مطلقًا في جميع الأموال لا في خصوص الوقف ومال اليتيم والمال المعد للاستغلال وذلك لازدياد الفساد وفقدان الوازع الديني (٣) ، على أن المنافع عند غير الحنفية أموال متقومة كالأعيان ذلك أن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال عز الدين بن عبد السلام (٤) ، والشافعية والحنابلة قالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي سواء استوفى الغاصب المنافع أو تركها حتى ذهبت أي إنها تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية أي ضامنة معتدية (٥) ، أما المالكية فقالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط ولا تضمن في حالة الترك أي تضمن بالتفويت دون الفوات، وهذا إذا غصب ذات الشيء أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.

ومما تغير الحكم لفساد الناس طلاق الثلاث في كلمة واحدة، فقد كان طلقة واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، فلما رأى عمر فساد الناس وإكثارهم من الحلف بالطلاق وتتابعوا في ذلك واقعة لمن تلفظ به ثلاثًا في مرة واحدة رواه البخاري، وفي سنن أبي داود، عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، قال ابن القيم: والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخفف عليه أن هو هذا السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاعه دفعة واحة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين اعتبرت مرة واحدة (٦) ، وقد أخذت بعض البلدان الإسلامية اليوم بالرأي الأول في قوانين الأحوال الشخصية فلا توضع محاكمهم الطلاق الثلاث لمن تلفظ به وتوقعه واحدة وما ذلك إلا لكثرة الحلف بالطلاق وانتشار الفساد وتغير العرف.

ومما تغير الحكم فيه قضاء القاضي بعلمه فقد اتفق الحنفية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه في واقعة شهدها بنفسه وإن ذلك يغني عن مطالبة الخصوم بالإثبات، قال ابن عابدين: القاضي يقضي بعلمه في حقوق العباد إذا علمها في بلده المخصص للقضاء فيه على قول الصاحبين والمختار اليوم أنه لا يقضي بعلمه للتهمة، وذلك استنادًا إلى ما فعله عمر رضي الله عنه، وذلك لفساد القضاة وغلبة الرشاوي وعدم اختيار القضاة بحسب الكفاءة والعفة والنزاهة، وإنما صار يوضع في هذا المنصب بحسب الشهرة والمحسوبية واستثنوا قضاءه بعلمه في أمور التعزير والطلاق والغصب فله أن يحول بين الرجل ومطلقته وأن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات (٧) .


(١) المغني، لابن قدامة: ٤ /٤٣٩.
(٢) رد المحتار على الدر المختار: ٥ /١٤٢، ط الأميرية.
(٣) قواعد الأحكام لابن عبد السلام: ١ /١٥٢، وما بعدها
(٤) انظر المدخل الفقهي، للزرقاء: ٢ /٩١٤
(٥) التفويت استيفاء المنفعة، كمطالعة الكتاب وركوب الدابة ولبس الثوب، والفوات هو ترك المنافع تضيع سدى وبدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها، مغني المحتاج: ٢ /٢٨٦
(٦) إعلام الموقعين عن رب العالمين: ١ /٣٣
(٧) حاشية ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: ٤ /٣٩١

<<  <  ج: ص:  >  >>