الرجل إذا حجَّ من غير حلِّه فقال: لبَّيك، قال له الله: لا لبَّيكَ ولا سعدَيك، هذا حجُّك مردودٌ عليك إنْ لم تردَّ ما في يديك، فما الذي يؤمنني أن يقال كذلك.
فلمَّا (١) دخلنا مكَّة، قيل له: إنَّ هاهنا فتًى متعبِّدًا لا يشرب إلَّا من زمزم، فجاء إليه أبو سليمانَ وقال: يا فتى، بلغني عنك كذا وكذا! قال: نعم، قال: أرأيتَ لو غارت زمزمُ فمن أين كنت تشرب؟ فقام الفتى وقبَّل رأسَ أبي سليمانَ وقال: جزاك اللهُ خيرًا، فلقد أرشدتني، فإنِّي إنَّما كنت أعبد زمزمَ ولا أعلم.
[وحكى عنه أحمدُ بن أبي الحَوَاريِّ قال:](٢) بينا أنا في طريق بيتِ المقدس، إذا بامرأةٍ عليها جبَّةُ صوفٍ ورأسُها بين ركبتيها وهي تبكي، فسلَّمت عليها فردَّت، فقلت: ممَّ تبكين؟ قالت: وكيف لا أبكي وأنا أحبُّ لقاءه! قلت: لقاءَ مَن؟ قالت: وهل يحبُّ المحبُّ إلا لقاءَ حبيبه؟! فقلت: مَن محبوبُك؟ فصاحت صيحةً عظيمة وقالت: يا فارغَ القلب، وهل ثَمَّ محبوبٌ على الحقيقة إلا علَّامُ الغيوب! ثم بكت وقالت: إنك إذا صفَّيت قلبَك من العيوب، جال في رياض المَلَكوت، فعند ذلك تصل إلى [محبَّة](٣) المحبوب، فقلت: فكيف يكون أهلُ المحبَّة في محبَّتهم؟ فقالت: أبدانُهم نحيلة، وألوانهم متغيِّرة، وعيونُهم هاطلة، وقلوبُهم واجفة، وأرواحهم ذائبة، وألسنتهم بذكر محبوبِهم لَهِجة (٤)، فقلت: من أين هذه الحكمةُ التي تنطقين بها؟ فقالت: إنَّ الحكمة لا تجيءُ بطول العُمر، بل بصفاء الوُدِّ وحسنِ المعاملة، ثم صاحت: آه آه، ودَخَلت بين الجبالِ وهي تقول وقد غابت عنِّي:[من الخفيف]
قد كتمتُ الهوى فبُحْنَ (٥) بسرِّي … عَبَراتٌ من الجفون تسيلُ
كتب الدمعُ فوق خدِّي سطورًا … كلُّ وجدٍ بمَن هويتَ قليل
(١) تتمة الحكاية ليست في الحلية، وأوردها ابن خميس في مناقب الأبرار ١/ ٢٢٦. (٢) في (خ): وقال أبو سليمان. (٣) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق لما في مناقب الأبرار ١/ ٢٣٠، وطبقات الأولياء لابن الملقن ص ٣٩١. (٤) في (خ): رطبة، والمثبت من (ب). (٥) في طبقات الأولياء: فباح.