الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ. فَقِيلَ: الْبُخْلُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إِخْرَاجِ مَا حَصَلَ عِنْدَكَ. وَالشُّحُّ: الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ). وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبُخْلَ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحَّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ. إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحُّ مَنْعَ الْمُسْتَحَبِّ لَمَا دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، وَالذَّمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «١». وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخِرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا (. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّحَّ أَشَدُّ فِي الذَّمِّ مِنَ الْبُخْلِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاتِهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ- وَقَدْ سُئِلَ، أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: (لَا) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ" أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: (مَنْ سَيِّدُكُمْ) قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَامِ مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ فِي الْأَبَدِ كَهُوَ فِي الْأَزَلِ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، فَيَرِثُ الْأَرْضَ بَعْدَ فِنَاءِ خَلْقِهِ وَزَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ، فَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ وَالْأَمْوَالُ لَا مُدَّعَى فِيهَا. فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَةِ فِي عَادَةِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ «٢» فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَرِثُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما، وكانت السموات وَمَا فِيهَا، وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا لَهُ، وَإِنَّ الْأَمْوَالَ كَانَتْ عَارِيَةً عِنْدَ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتِ الْعَارِيَةُ إِلَى صَاحِبِهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها" [مريم: ٤٠] «٣» الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
(١). في ج: هلاك الدنيا والأخرى والدين.(٢). في الأصول: الميراث. والصواب ما ذكر. [ ..... ](٣). راجع ج ١١ ص ١٠٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute