كُونُوا رَبَّانِيِّينَ؟. وَهَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ" وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ" [آل عمران: ١٢١] كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَكِنْ مَزَجَ مَعَهُمُ الْيَهُودَ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ فِعْلَهُمْ. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ «١» الْأُمُورِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي الْأَصْلِ رَبِّيَّ فَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَظِيمِ اللِّحْيَةِ: لِحْيَانِيُّ وَلِعَظِيمِ الْجُمَّةِ جُمَّانِيُّ وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ رَقَبَانِيُّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّبَّانِيُّونَ أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّهُ يَرُبُّهُ فَهُوَ رَبَّانُ إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا يُدَبِّرُونَ أُمُورَ النَّاسِ وَيُصْلِحُونَهَا. وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا رَيَّانُ وَعَطْشَانُ، ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهَا يَاءُ النِّسْبَةِ كَمَا قِيلَ: لِحْيَانِيُّ وَرَقَبَانِيُّ وَجُمَّانِيُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كُنْتُ مُرْتَهَنًا فِي الْجَوِّ «٢» أَنْزَلَنِي ... مِنْهُ الْحَدِيثُ وَرَبَّانِيُّ أَحْبَارِي
فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ: وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: الرَّبَّانِيُّ هُوَ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ" قَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ. ابْنُ جُبَيْرٍ: حُكَمَاءُ أَتْقِيَاءُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ حِفْظَ الْقُرْآنِ جَهْدَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ". وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاةُ، وَالْأَحْبَارُ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأَحْبَارَ هُمُ الْعُلَمَاءُ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يَجْمَعُ إِلَى الْعِلْمِ الْبَصَرَ بِالسِّيَاسَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: رَبَّ أَمْرَ النَّاسِ يَرُبُّهُ إِذَا أَصْلَحَهُ وَقَامَ بِهِ، فَهُوَ رَابٌّ وَرَبَّانِيٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، الْعَارِفُ بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ محمد بن الحنفية يوم مات أبن عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى حُرٍّ وَلَا مَمْلُوكٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
(١). في د: جميع، وفى ز: تفسير.(٢). في: زوا: في الحق.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute