وَقَفَ بعضُ العارفينَ [الخائفينَ]، بعرفةَ، فمَنَعَهُ الحياءُ مِن الدُّعاءِ، فقيلَ لهُ: لمَ لا تَدْعو؟ فقالَ: ثَمَّ وحشةٌ. فقيلَ لهُ: هذا يومُ العفوِ عنِ الذُّنوبِ. فبَسَطَ يديهِ ووَقَعَ ميتًا.
حَدا بِها الحادي إلى نُعْمانِ … فَاسْتَذْكَرَتْ عَهْدًا لَها بِالبانِ
فَسالَتِ الرُّوحُ مِنَ الأجفانِ … تَشَوُّقًا إلى الزَّمانِ الفاني
[غيرُهُ]:
قَدْ لَجَّ بِيَ الغَرامُ حَتَّى قالوا … قَدْ جُنَّ بِهِـ[ـمْ]، وهكَذا البَلْبالُ (١)
المَوْتُ إذْ أرْضَيْتُهُ سَلْسالُ … في مِثْلِ هَواكَ تَرْخُصُ الآجالُ
وَقَفَ بعضُ الخائفينَ بعرفاتٍ وقالَ: إلهي! النَّاسُ يَتَقَرَّبونَ إليكَ بالبُدْنِ وأنا أتَقَرَّبُ إليكَ بنفسي، ثمَّ خَرَّ ميتًا (٢).
لِلنَّاسِ حَجٌّ وَلي حَجٌّ إلى سَكَني … تُهْدَى الأضاحي وَأُهْدي مُهْجَتي وَدَمي
ما يَرْضى المحبُّونَ لمحبوبِهِم بإراقةِ دماءِ الهدايا، وإنَّما يُهْدونَ لهُ الأرواحَ.
أرى مَوْسِمَ الأعْيادِ أُنْسَ الأجانِبِ … وَما العيدُ عِنْدي غَيْرَ قُرْبِ الحَبائِبِ
إذا قَرَّبوا بُدْنًا فَقُرْبانِيَ الهَوى … فَإنْ قَبِلوا قَلْبي وَإلاَّ فَقالَبي
وَما بِدَمِ الأنْعامِ أقْضي حُقوقَهُمْ … وَلكِنْ بِما بَيْنَ الحَشا وَالتَّرائِبِ
كانَ أبو عُبَيْدَةَ الخَوَّاصُ قد غَلَبَ عليهِ الشَّوقُ والقلقُ حتَّى يَضْرِبَ على صدرِهِ في الطُّرقِ ويَقولَ: واشوقاه إلى مَن يَراني ولا أراه. وكانَ بعدَما كَبُرَ يَأْخُذُ بلحيتِهِ ويَقولُ: يا ربِّ! قد كَبُرْتُ فأعْتِقْني. ورُئِيَ بعرفةَ وقد وَلِعَ بهِ الولهُ وهوَ يَقولُ:
سُبْحانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنا بِالعُيونِ لَهُ … عَلى حُمَى الشَّوْكِ (٣) وَالمُحْمَى مِنَ الإبَرِ
لَمْ نَبْلُغِ العُشْرَ مِنْ مِعْشارِ نِعْمَتِهِ … وَلا العُشَيْرَ وَلا عُشْرًا مِن العُشَرِ
هُوَ الرَّفيعُ فَلا الأبْصارُ تُدْرِكُهُ … سُبْحانَهُ مِنْ مَليكٍ نافِذِ القَدَرِ
(١) البلبال: شدّة الهمّ وكثرة الوساوس.
(٢) من مات في غير ساحات الجهاد فما تقرّب بنفسه بل انقضى أجله! إنّما يتقرّب العبد بنفسه عندما ينحر شهواتها وأغراضها ويقول: لبّيك لبّيك، سمعت وأطعت، في منشطي ومكرهي وأثرة علي.
(٣) حُمَى الشوك: إبره الحادّة. ووقع في م: "جنى الشوك". وفي ط: "شبا الشوك".