وعبدُ الملك بنُ الفضلِ عن يساره وجعفرٌ مصلوب، فاستقبلنا عينَ الشمس وكأنَّها طلعت من وجه جعفرٍ أو من حاجبه، فاربدَّ وجهُ هارون، فقال له عبدُ الملك: لقد عَظُم ذَنْبٌ لم يَسَعه عفوُ أميرِ المؤمنين، فقال هارون: مَن وَرَد غيرَ مائه صدر بدائه، ومَن يعملْ على شاكلته يوشكْ أن يقومَ على راحلته (١). ثم أمر بالنِّفط، فأُحرق وهو يقول: لَئن ذهب أَثَرُك لقد بقي خَبَرُك، ولَئن حُطَّ قدرُك لقد علا ذِكرُك.
وقال هشام: ودخل أبو الهيثمِ على يحيى بنِ خالدٍ وهو يقرأ في المصحف، فوقف على رأسه وقال: إنَّه قتل ولدك، فقال: يُقتل ولدُه، فقال: قد أمر بخراب دارِك، قال: تُخْرَب دورُه. فهتك أبو الهيثمِ السُّتورُ وجمع المتاع، فقال يحيى: هكذا تقومُ الساعة. فعاد أبو الهيثمِ إلى هارونَ فأَخبره بما قال، فأطرق رأسَه مفكرًا وقال: إنَّا لله، واللهِ ما قال شيئًا إلا ورأيتُه كما قال.
وقال أبو حسَّانَ الزيادي: كان هارونُ قد احتاط على آل برمكٍ ليلةَ قتل جعفرًا، وأخذهم أخذةً رابية، وحبسهم بالرقَّة، وبلغ يحيى فقال: أنا بقضاءِ اللهِ راض، وبالخيرة منه عالم، ولا يؤاخذ اللهُ العبادَ إلَّا بذنوبهم، وما ربك بظلَّام للعبيد، وما يعفو عنه أكثرُ ولله الحمد.
ذِكر أقوالِ النَّاس في البرامكةِ ومراثيهم:
قال سعيدٌ الزُّهريُّ: لمَّا صُلب جعفر وقف الرَّقاشي الشاعر فقال (٢): [من الوافر]
هدَا الخالونَ مِن شَجْوي فناموا … وعيني ما يَلَذُّ لها المنامُ
وهذا جعفرٌ بالجِسْر تَمحو … مَحاسِنَ وجهِه ريحٌ قَتَامُ
(١) في العقد الفريد ٥/ ٦١: ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته. (٢) الأغاني ١٦/ ٢٤٨ - ٢٤٩، تاريخ بغداد ٨/ ٣٧، المنتظم ٩/ ١٣٦، الحماسة البصرية ١/ ٢٥٣، وفيات الأعيان ١/ ٣٤٠، مرآة الجنان ١/ ٤٢٢. وقد نسبت الأبيات في تاريخ بغداد ٨/ ٣٦ - ٣٧، ومختصر تاريخ دمشق ٦/ ١٠٤ - ١٠٥ لأبي قابوس النصراني، ونسبها الطبري في تاريخه ٨/ ٣٠١ لأبي عبد الرَّحمن العطوي، ونسبها صاحب العقد الفريد ٥/ ٧٠ لسليمان الأعمى. وقال المرزباني في معجمه ص ١٨١: وقد رويت لأبي قابوس الحيري، والصحيح أنها للرقاشي. اهـ.