وقوله: فَاسْتَوى قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى إذ رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمّد ع حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، ودَنا أعمّ من فَتَدَلَّى فَبَيَّنَ تعالى بقوله: فَتَدَلَّى هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، وقابَ:
معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره «١» : معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد «٢» : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ.
وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس «٣» : أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين.
وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
قال ابن عباس «٤» : المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: مَا أَوْحى
إبهام على جهة التفخيم والتعظيم قال عياض: ولما كان ما كاشفه ع من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب/ الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ- رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز، انتهى.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١١ الى ١٥]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥)
(١) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٦) ، وابن عطية (٥/ ١٩٧) .
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٧- ٥٠٨) برقم: (٣٢٤٤٠، ٣٢٤٤٢) ، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٦) ، وابن عطية (٥/ ١٩٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٨) ، وعزاه لآدم بن أبي إياس، والفريابي، والبيهقي.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٧) ، وعزاه للطبراني، وابن مردويه، والضياء.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٩) برقم: (٣٢٤٥٤) ، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٨) ، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.