الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنَّ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَتَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ مِنْ قُرْبِكَ حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِكَ مَا وَفَّيْتَ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَاكَ فَأَنَا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي. فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ الْجَوَابَ يُطَمْئِنُهُ مَعَ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ الْبَجَلِيِّ، وَكَانَ وَاحِدَ وَقْتِهِ فَخَدَعَهُ وَرَدَّهُ.
وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ فَذَكَرَ عَنْ جَمَاعَةٍ قَالُوا: كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلا إِمَامًا١ وَدَلِيلا عَلَى مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ وَكَانَ فِي مَحِلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلا فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ وَكَانَ كَالَّذِي دَلَّى بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ فَفَعَلْتُ تَوْطِئَةً٢ لِسُلْطَانِكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِي اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ.
ثُمَّ سَارَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ مُشَاقًّا٣ مُرَاغِمًا. فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ لِمَنْ بِالْحَضْرَةِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعْظِمُونَ الأَمْرَ وَيَأْمُرُونَهُ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَوْلاهُ، وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِرَسُولِهِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَبُو حُمَيْدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ: كَلِّمْهُ بِاللِّينِ مَا يُمْكِنُ وَمَنِّهِ وَعَرِّفْهُ بِحُسْنِ نِيَّتِي وَتَلَطَّفَ، فَإِنْ يَئِسْتَ مِنْهُ فَقُلْ لَهُ. قَالَ وَاللَّهِ لَوْ خُضْتَ البَحرَ لَخَاضَهُ وَرَاءَكَ، وَلَوِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ لاقْتَحَمْتُهَا حَتَّى أَقْتُلَكَ. فَقَدِمَ الرَّسُولُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَلَحِقَهُ بِحُلْوَانَ. فَاسْتَشَارَ أَبُو مُسْلِمٍ خَاصَّتَهُ فَقَالُوا: احْذَرْهُ، فَلَمَّا طَلَبَ الرَّسُولُ الْجَوَابَ قَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبَكَ فَلَسْتُ آتِيهِ وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى خِلافِهِ، قَالَ: لا تَفْعَلْ، لا تَفْعَلْ، فَلَمَّا آيَسَهُ بَلَّغَهُ قَوْلُ الْمَنْصُورِ فَوَجَمَ لَهَا وَأَطْرَقَ مُنْكِرًا ثُمَّ قَالَ: قُمْ؛ وَانْكَسَرَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَارْتَاعَ.
وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ كَتَبَ إِلَى نَائِبِ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى خُرَاسَانَ فَاسْتَمَالَهُ وَقَالَ: لَكَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ نَائِبُ خُرَاسَانَ أَبُو دَاوُدَ خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَقُولُ: إِنَّا لَمْ نَقُمْ لِمَعْصِيَةِ خُلَفَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ فَلا تُخَالِفَنَّ إِمَامَكَ؛ فَوَافَاهُ كِتَابُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَزَادَهُ رُعْبًا وَهَمًّا، ثُمَّ أَرْسَلَ مَنْ يَثِقْ بِهِ مِنْ أُمَرَائِهِ إِلَى الْمَنْصُورِ فَلَمَّا قَدِمَ تَلَقَّاهُ بَنُو هَاشِمٍ بِكُلِّ مَا يَسُرُّ، وَاحْتَرَمَهُ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: اصْرِفْهُ عَنْ وَجْهِهِ ولك إمرة خراسان،
١ وهو يقصد أخاه إبراهيم الإمام "الطبري "٧/ ٤٨٣".٢ توطئة لسلطانكم: يعني تقدمة أو مقدمة لسلطانكم.٣ مشاقا: يعني معاديا ومخالفا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute