لأنه لم يُرفَعْ به، فصار وبالًا عليه، فلو لم يكن عالمًا كان خيرًا له وأخفَّ لعذابه.
وسادسُها: أنَّه سبحانه أخبر عن خِسَّةِ همَّته وأنَّه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.
وسابعُها: أنَّ اختيارَه للأدنى لم يكن عن خاطرٍ وحديث نفس، ولكنَّهُ كان عن إخلادٍ إلى الأرض، وميل (١) بكلِّيَّتِهِ إلى ما هناك، وأصلُ الإخلاد اللزومُ على الدَّوام، كأنَّه قيل: لزِم الميلَ إلى الأرض، ومن هذا يقالُ: أخلد فلانٌ بالمكان: إذا لزم الإقامةَ به، قال مالك بن نُوَيْرة (٢).
وعبَّرَ عن ميله إلى الدنيا بإخلادِهِ إلى الأرض؛ لأنَّ الدُّنيا هي الأرضُ وما فيها وما يُسْتَخْرَجُ منها من الزينةِ والمَتاع.
وثامنُها: أنَّه رَغِبَ عن هداهُ، واتَّبع هواهُ، فجعل هواهُ إمامًا له يقتدي به ويتَبِعُهُ.
وتاسعُها: أنَّه شبَّهَهُ بالكلب الذي هو أخسُّ الحيوانات هِمَّةً، وأسقطُها نفسًا، وأبخلُها وأشدُّها كَلَبًا، ولهذا سُمِّي كلبًا.
وعاشرُها: أنه شبَّه لَهَثَهُ على الدُّنيا، وعدمَ صبرِه عنها، وجَزَعَهُ لفقدها، وحرصه على تحصيلها؛ بلَهَثِ الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطَّرْدِ، وهكذا هذا: إن تُرِكَ فهو لَهْثَانُ على الدُّنيا، وإن وُعِظ وزُجِر فهو كذلك؛ فاللَّهَثُ لا يُفارِقُهُ في كلِّ حال كَلَهَثِ الكلب.
(١) في الأصل: "ولربما". (٢) من قصيدة له في الأصمعيات (ص ١٩٣).