وواهبًا نفسَه من مثلِ ذا سَفَهًا … لو كُنْتَ تَعْرِفُ قدرَ النَّفسِ لم تَهَبِ
شابَ الصِّبا والتَّصابي بعدُ لم يَشِبِ … وضاعَ وقتُك بين اللَّهو واللَّعبِ
وشمسُ عُمْرِك قد حانَ الغُرُوبُ لها … والفيءُ في الأفُق الشَّرقيِّ لم يَغِبِ
وفاز بالوصلِ من قدْ جَدَّ وانْقشعتْ … عن أُفْقِه ظُلُماتُ اللَّيلِ والسُّحُبِ
كم ذا التَّخلُّفُ والدُّنيا قد ارتحلتْ … ورُسلُ ربِّك قدْ وافَتْك في الطَّلَبِ
ما في الدِّيار وقدْ سارتْ ركائبُ منْ … تهْواهُ للصَّبِّ من شُكْرٍ ولا أَرَبِ
فأَفرِشِ الخَدَّ ذَيَّاك التُّرابَ وقُلْ … ما قالهُ صاحب الأشواق والحُقُبِ (١)
ما رَبْعُ مَيَّةَ محفوفًا يُطيفُ به … غيْلانُ أشْهَى له من رَبْعِكَ الخَرِبِ
منازلًا كان يَهواها ويألفُها … أيَّام كان منالُ الوصل عن كَثَبِ
ولا الخُدودُ ولو أُدْمِينَ من ضَرَجٍ … أشهَى إلى ناظري من رَبْعِك الخَرَبِ (٢)
وكُلَّما جُلِّيَتْ تلك الرُّبوعُ لهُ … يَهْوي إليها هُويَّ الماءِ في الصَّبَبِ
أحْيا لهُ الشوقَ تذكارُ العُهودِ بها … فلو دَعا القلبَ للسُّلوانِ لم يُجِبِ
هذا وكم منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ … وما له في سواها الدَّهرَ من رَغَبِ
ما في الخيامٍ أخو وَجْدٍ يُرِيْحُك إنْ … بَثَثْتَه بعضَ شأنِ الحبِّ فاغتربِ
وأَسرِ في غمَراتِ الليلِ مهتديًا … بنفحةِ الطيبِ لا بالعُودِ والحَطَبِ
وعادِ كُلَّ أخي جُبْنٍ ومَعْجزةٍ … وحاربِ النفسَ لا تُلقِيكَ في الحَرَبِ
(١) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "في الحُقُبِ". ويقصد بصاحب الأشواق أبا تمام الذي ضمَّن له بيتين مع التصرف (ما ربع مية … ) و (ولا الخدود … ).
(٢) في ط وديوان أبي تمام: "من خدك الترب". وتقدم فيها هذا البيت على سابقه.