وَوَجْهُ النَّظْمِ بِمَا قَبْلُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خَرَجْتُمْ لِلْجِهَادِ كَمَا سَبَقَ بِهِ الْأَمْرُ فَحُيِّيتُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا، بَلْ رُدُّوا جَوَابَ السَّلَامِ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ. الثَّانِيةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَتَأْوِيلِهَا، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الرَّدُّ عَلَى الْمُشَمِّتِ فَمِمَّا يَدْخُلُ بِالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى رَدِّ التَّحِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَنْحَى مَالِكٍ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْهِبَةِ إِذَا كَانَتْ لِلثَّوَابِ، فَمَنْ وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ عَلَى الثَّوَابِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَأَثَابَ عَلَيْهَا قِيمَتَهَا. قُلْتُ: وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالُوا: التَّحِيَّةُ هُنَا الْهَدِيَّةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ رُدُّوها) ولا يمكن رد الإسلام بِعَيْنِهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَدَاءَ التَّحِيَّةِ بِعَيْنِهَا وَهِيَ الْهَدِيَّةُ، فَأَمَرَ بِالتَّعْوِيضِ إِنْ قَبِلَ أَوِ الرَّدِّ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي السَّلَامِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ الْهِبَةِ لِلثَّوَابِ وَالْهَدِيَّةِ فِي سُورَةِ (الرُّومِ) عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً «١») إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التحية هاهنا السلام، لقوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «٢»). وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
تُحَيِّيهِمْ بِيضُ الْوَلَائِدِ بَيْنَهُمْ ... وَأَكْسِيَةُ الْإِضْرِيجِ فَوْقَ الْمَشَاجِبِ «٣»
أَرَادَ: وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَقَرَّرَ فَفِقْهُ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَرَدُّهُ فَرِيضَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ هَلْ يُجْزِئُ أَوْ لَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى الْإِجْزَاءِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ رَدَّ السلام
(١). راجع ج ١٤ ص ٣٦.(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٩٢. [ ..... ](٣). الولائد: الإماء. والإضريج: الخز الأحمر، وقيل: هو الخز الأصفر. والمشاجب (جمع مشجب بكسر الميم): عيدان يضم رموسها ويفرج بين قوائمها وتوضع عليها الثياب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute