قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أَيْ لَا يَبْخَسُهُمْ وَلَا يُنْقِصُهُمْ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِمْ وَزْنَ ذَرَّةٍ بَلْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «١»). وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ النَّمْلِ. وَعَنْهُ أَيْضًا رَأْسُ النَّمْلَةِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: زَعَمُوا أَنَّ الذَّرَّةَ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ. وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ خُبْزًا حَتَّى عَلَاهُ الذَّرُّ مِقْدَارَ مَا يَسْتُرُهُ ثُمَّ وَزَنَهُ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى وَزْنِ الْخُبْزِ شَيْئًا. قُلْتُ: وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لِلذَّرَّةِ وَزْنًا، كَمَا أَنَّ لِلدِّينَارِ وَنِصْفِهِ وَزْنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الذَّرَّةُ الْخَرْدَلَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها «٢»). وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَصْغَرِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) أَيْ يُكْثِرُ ثَوَابَهَا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ (حَسَنَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَالْعَامَّةُ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ (تَكُ) بِمَعْنَى تَحْدُثُ، فَهِيَ تَامَّةٌ. وَعَلَى الثَّانِي هِيَ النَّاقِصَةُ، أَيْ إِنْ تَكُ فِعْلَتُهُ حَسَنَةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (نُضَاعِفْهَا) بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَهِيَ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ (وَيُؤْتِ). وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ (يُضَعِّفْهَا)، وَالْبَاقُونَ (يُضاعِفْها) وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا التَّكْثِيرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (يُضاعِفْها) مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، (وَيُضَعِّفُهَا) بِالتَّشْدِيدِ يَجْعَلُهَا ضِعْفَيْنِ. (مِنْ لَدُنْهُ) مِنْ عِنْدِهِ. وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ «٣»: لَدُنْ وَلُدْنُ وَلَدُ وَلَدَى، فَإِذَا أَضَافُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ شَدَّدُوا النُّونَ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (مِنْ) حَيْثُ كَانَتْ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَ (لَدُنْ) كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَشَاكَلَا حَسُنَ دُخُولُ (مِنْ) عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي لَدُنْ: إِنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْغَايَةِ. (أَجْراً عَظِيماً) يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَفِي صحيح مسلم من حديث
(١). راجع ج ٨ ص ٣٤٦.(٢). راجع ج ١١ ص ٢٩٣.(٣). في كتب اللغة أكثر من أربع، منها مع المذكور: لدن ولدن.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute