الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَدْخُلُونَ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ «١» شَرِيكٌ الْقَاضِي بِعِتْقِهِمْ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَعْتِقُ عَلَى الِابْنِ إِذَا مَلَكَهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يحزي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ). قَالُوا: فَإِذَا صَحَّ الشِّرَاءُ فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَلِصَاحِبِ الْمِلْكِ التَّصَرُّفُ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «٢») فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَبَيْنَ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَبْقَى وَالِدُهُ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ سُلْطَانِهِ، فَإِذًا يَجِبُ عَلَيْهِ عِتْقُهُ إِمَّا لِأَجْلِ الْمِلْكِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ (فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)، أَوْ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ عَمَلًا بِالْآيَةِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا تَسَبَّبَ إِلَى عِتْقِ أَبِيهِ بِاشْتِرَائِهِ نَسَبَ الشَّرْعُ الْعِتْقَ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الْإِيقَاعِ مِنْهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ، فَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَجْهُ الثَّانِي إِلْحَاقُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَبِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا أَقْرَبَ لِلرَّجُلِ مِنَ ابْنِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَبِ، وَالْأَخُ يُقَارِبُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِيهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَمُتَعَلَّقُهُ حَدِيثُ ضَمْرَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْحامَ) الرَّحِمُ اسْمٌ لِكَافَّةِ الْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ فِي «٣» مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ بَنِي الْأَعْمَامِ مَعَ أَنَّ الْقَطِيعَةَ مَوْجُودَةٌ وَالْقَرَابَةَ حَاصِلَةٌ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهَا الْإِرْثُ وَالْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ. فَاعْتِبَارُ الْمَحْرَمِ زِيَادَةٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ. وَهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ نَسْخًا، سِيَّمَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْقَطِيعَةِ، وَقَدْ جَوَّزُوهَا فِي حَقِّ بَنِي الْأَعْمَامِ وَبَنِي «٤» الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أَيْ حَفِيظًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. ابْنُ زَيْدٍ: عَلِيمًا. وَقِيلَ: (رَقِيباً) حَافِظًا، قِيلَ: بِمَعْنَى فَاعِلٍ. فَالرَّقِيبُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرَّقِيبُ: الْحَافِظُ وَالْمُنْتَظِرُ، تَقُولُ: رَقَبْتُ أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت.
(١). في ج وز وط: وكان شريك القاضي يعتقهم.(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٣٦.(٣). في ب: من.(٤). في ب وج ود وط وى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute