من عِنايةِ والدِه به وبسلوكِهِ سبيلَ العِلْم، فقد ظلَّتْ توصيةُ هذا الوالِدِ تُظِلُّ هذا النَّجْلَ حتى أتَى بعبقريةٍ ضَنَّ الزمانُ بعدَها بِمَثيلٍ لها، حَفِظَ القرآنَ وهو ابنُ تِسْعٍ، وألفيةَ العراقِي في علومِ الحديثِ، ومُختصَرَ ابنِ الحاجبِ في أصولِ الفِقْهِ.
وهنا نُسَجِّلُ مزيّةَ المجتمعِ الإسلامي الذي تنهضُ فيه المواهبُ والعبقرياتُ، أيًّا كانَتْ ظروفُها في الحياة والعَيْش، فلا يَخْمُلُ ذكيٌّ ونَابِهٌ لفَقْرٍ نازِلٍ به، ولا يَضِيعُ يَتِيمٌ ذو موهبةٍ لِيُتْمِه، كيف والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو القُدوةُ المُثلى لكلّ مسلم قد وُلِد يتيمًا، ثم شَقَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طريقَ الحياة بنفسه فرَعى الغنمَ ثم اتَّجَر بأموال الرِّجَال. لِتكونَ حياتُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسوةً بالصبر والمُصابَرة ..
ويأتي الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ واسِطَةَ العِقْدِ لِثلاثةٍ من الأعلام الأئمّة الأيتامِ، فكان قَبْلَه شيخُه ومُخَرِّجُه الإمامُ الحافِظُ عبدُ الرحيم بنُ الحُسين العِراقي وقد نشأ يتيمًا، وكان بعدَه الحافِظُ جلالُ الدِّين عبدُ الرحمنِ السُّيوطِيّ وقد نشأ كذلك يتيمًا (١).
إِنّها خُصوصِيَّةُ العَطاءِ والتَّراحُمِ والإخَاء في المسلمين، لا تُظْلَمُ فيهم مَوْهِبَةٌ ولا مَقْدِرَةٌ لأيِّ إنسانٍ، ولا تَشُوبُ تكوينَه عُقْدَةُ نَقْصٍ أو شُعورٌ بحِرمان، لأنّ المجتمع يُحقِّق بالعمل الواقعي قولَه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقولَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ المؤمنينَ في تَوَادِّهم وتَرَاحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَدِ، إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى"(٢).