وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]، قال بعد ذلك متوعِّدًا:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف: ٢٩]؛ وبهذا فسَّرها الصحابةُ والتابِعُونَ، ولا خلافَ بينهم في ذلك (١).
ولكنْ مَن نظَرَ في هذه الآية، نظَرَ إلى كلمةٍ منها؛ وهي قولُهُ:{فَمَنْ شَاءَ}[الكهف: ٢٩]، ولم ينظُرْ إلى السياقِ؛ فتوهَّم أنَّ المشيئةَ تعني حرِّيَّةَ الاختيار، والمشيئةُ هنا هي كقولِهِ تعالى:{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[فصلت: ٤٠].
ولم يَختلِفِ المفسِّرونَ مِن السَّلَفِ على صِحَّةِ هذا المعنى؛ وبهذا قال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وابنُ زَيْد (٢).
وجاء بمعناه الحديثُ؛ كما في قولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ؛ فَحَافِظْ عَلَى وَالِدَيْكَ أَوِ اتْرُكْ)(٣)؛ وليس هذا تخييرًا بين العقوقِ والبِرِّ؛ وهو معروفٌ في لسانِ العرَبِ؛ فتأمُرُ بالشيءِ وتخيِّرُ فيه، والمرادُ: الوعيدُ والتهديد؛ ومِن ذلك قولُهُ تعالى:{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[النحل: ٥٥]؛ وليس في هذا أمرٌ بالكفرِ، ولكنَّه تهديد.
وكما يكونُ في التهديدِ والوعيدِ يكونُ في الرجاءِ؛ لكنَّه لا يُفهَمُ مِن مثلِ هذا السياقِ التخييرُ؛ كما في قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)(٤)؛ فلا يقولُ عاقلٌ:"إنه يجوزُ لأهلِ بَدْرٍ الكفرُ والفسوقُ والعِصْيانُ"، ولكنَّ الآيةَ السابقةَ
(١) "تفسير الطبري" (١٥/ ٢٤٤ - ٢٤٥)، و"الدر المنثور" (٩/ ٥٢٩). (٢) الموضع السابق. (٣) الترمذي (١٩٠٠)، وابن ماجه (٢٠٨٩ و ٣٦٦٣) من حديث أبي الدرداء. (٤) البخاري (٣٠٠٧)، ومسلم (٢٤٩٤) من حديث علي بن أبي طالب.