بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ». أَيْ: فَإِنَّكَ لَا تَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كُلُّ مَا تَخْلُقُه فَفِيهِ حِكْمَة، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَهَذَا شَرٌّ جُزْئِي إِضَافِي، فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّي، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ - فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّه عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إِلَيْهِ.
وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (١) {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (٢)، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، كَقَوْلِه: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (٣) وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُه، كَقَوْلِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (٤).
وَلَيْسَ إِذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَة، بَلْ لِلَّهِ مِنَ الرَّحْمَة وَالْحِكْمَة مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَه إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِي بِالْإِضَافَة - يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا، بَلِ الْأُمُورُ الْعَامَّة الْكُلِّيَّة لَا تَكُونُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَة لِلْعِبَادِ، كَالْمَطَرِ الْعَامِّ، وَكَإِرْسَالِه رَسُولا عَامٍّا.
وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ وَالْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِه، وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَة وَاحِدَة بِلَا إِمَامٍ، وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَة ظُلْمِه، فَذَاكَ خَيْرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ، تَكُونُ كَفَّارَة لِذُنُوبِهِمْ، وَيُثَابُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَه وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَدُوان. وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّة، وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ
(١) سورة الزُّمَرِ آية ٦٢(٢) سورة النِّسَاءِ آية ٧٨(٣) سورة الْفَلَقِ آية ٢(٤) سورة الْجِنِّ آية ١٠
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute