الْمَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعَ حَتَّى مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ؟ بِخَمْسِينَ صَلَاةً، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَالْتَفَتَ إِلَى جَبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ فِي مَكَانِهِ - هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)) وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ - فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ نَزَلَ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، فَأَمَرَهُ مُوسَى بِالرُّجُوعِ وَسُؤَالِ التَّخْفِيفِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَذَ، نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (١)، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (٢)، فَهُوَ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي الْمَذْكُورَيْنِ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ هُوَ دُنُوِّ جِبْرِيل وَتَدَلِّيهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (٣). فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمُعَلِّمِ الشَّدِيدِ الْقُوَى، وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي الَّذِي
(١) سورة النَّجْمِ الآيتان ١١، ١٣.(٢) سورة النجم آية ٨.(٣) سورة النَّجْمِ الآيات ٥ - ٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute