الْوَجْهِ الَّذِي أنْكَرُوهُ وَجَدْتهمْ قَد اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ؛ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ، أَو اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أو نَقْصًا، ثُمَّ حَكَوْا عَن مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ تَعبِوا فِي إقَامَةِ الْأدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: فَيَتَعَيِّنُ تَأوِيلُهُ؛ إمَّا بِالِاستِيلَاء، أَو بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي، أَو بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُّوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكانَةِ.
وَيَبْقَى الْمَعْنَى الثَّالِثُ وَهُوَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا: قَد دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ.
واَلَّذِي يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ مَن أَطْلَقَ الظَّاهِرَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ: أَنَّ الْألْفَاظَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ؛ كَلَفْظِ الْأسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ، فَهَذِهِ إذَا قِيلَ: أسَدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ، أو قِيلَ لِلْبَلِيدِ: حِمَارٌ، أو لِلْعَالِمِ أو السَّخِيِّ أَو الْجَوَادِ مِن الْخَيْلِ: بَحْرٌ، أَو قِيلَ لِلْأَسَدِ: كَلْبٌ: فَهَذَا مَجَازٌ.
ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بهِ قَرِينَةٌ: تَبَيَّنَ الْمُرَادُ؛ كَقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ: "إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا" (١)، وَقَوْلِهِ: "إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ" (٢)، وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانِ: "إنَّ اللهَ يقمصك قَمِيصًا" (٣)، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَن اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ" (٤)، أو كَمَا قَالَ، وَنَحْو ذَلِكَ.
فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ، وَإِن كَانَ قَد ظَهَرَ مِن اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ، لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الأوَّلِ.
وَكُلُّ مَن سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ: عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ، وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ؛
(١) رواه البخاري (٢٦٢٧)، ومسلم (٢٣٠٧).(٢) رواه أحمد (٤٣).(٣) رواه الترمذي (٣٧٠٥)، وأحمد (٢٥١٦٢)، وقال الترمذي: حسن غريب.(٤) تقدم تخريجه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute