فهو صدق من الجهتين، وإن قصد خلاف الواقع وقَصَد مع ذلك إفهام المخاطب خلاف ما قصد، بل معنى ثالثًا لا هو الواقع ولا هو المُراد = فهو كذب من الجهتين بالنسبتين معًا.
وإن قصد معنى مطابقًا صحيحًا، وقصد مع ذلك التعمية على المخاطب وإفهامه خلاف ما قَصَده = فهو صدق بالنسبة إلى قصده، كذب بالنسبة إلى إفهامه.
ومن هذا الباب التورية والمعاريض، وبهذا أطلق عليها إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - اسمَ الكذب، مع أنه الصادق في خبره، ولم يخبر إلَاّ صدقًا .. ) (١)
لكنَّ هذا الجواب، قد أُورد عليه عدة اعتراضات:
الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق على تلك الكلمات "كذبات" وكذا إبراهيم - عليه السلام - أطلق على ذلك كما في حديث الشفاعة:(إنِّ ربي قد غضب اليوم ... وإني كنت كذبتُ ثلاثة كذبات)(٢) فاتفاق الخليلين محمد - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم - عليه السلام - على نعتها بذلك = يدفع قول من قال أنها معاريض لا شائبة للكذب فيها.
ومما يؤكد ذلك:
الثاني: ما عُلِم من توقير وتعظيم نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لأَبيه إبراهيم - عليه السلام -، فقد صحَّ عنه أنه قال:(نحن أَحق بالشكِّ من إبراهيم عليه السلام)(٣)
(١) "مفتاح دار السعادة" (٢/ ٣٩٥ - ٣٩٦)، وانظر: " المحرر الوجيز" لابن عطية (١٥٨١)، و"الاستغاثة" لابن تيمية (٤٠٨ - ٤٠٩) (٢) أخرجه البخاري كتاب"التفسير" باب " {ذريَّة من حملنا مع نوح إنَّه كان عبدًا شكورًا} " (٩٨٧ - رقم [٤٧١٢])، ومسلم كتاب "الإيمان" باب"أدنى أهل الجنة منزلة" (١/ ١٨٥ - رقم [١٩٤]) (٣) أخرجه البخاري كتاب "أحاديث الأَنبياء" باب "قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} .. " (٦٩١ - رقم [٣٣٧٢])، ومسلم كتاب "الإيمان " باب"زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلَّة" (١/ ١٣٣ - رقم [١٥١])