ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يَحْكُمُ فِيهَا إِلَّا السُّلْطَانَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتُصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنُفِّذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ فِيهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقَّ الْحَاكِمِ بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ، وَمُؤَدٍّ إِلَى تَهَارُجِ النَّاسِ كَتَهَارُجِ «١» الْحُمُرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ، فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرْجِ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ وَتَحْصُلَ الْفَائِدَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: التَّحْكِيمُ جَائِزٌ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوًى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا كَانَ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ إِقَامَةً لِحُكْمِ كِتَابِهِمْ، لِمَا حَرَّفُوهُ وَأَخْفَوْهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ) وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْبَتَ ابْنَيْ صُورِيَّا عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَاسْتَحْلَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَقْوَالُ الْكُفَّارِ فِي الْحُدُودِ وَفِي شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ إِلْزَامِهِمْ مَا الْتَزَمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ بكون حُصُولُ طَرِيقِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْوَحْيَ، أَوْ مَا أَلْقَى اللَّهُ فِي رَوْعِهِ مِنْ تَصْدِيقِ ابْنَيْ صُورِيَّا فِيمَا قَالَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَا قَوْلُهُمَا مُجَرَّدًا، فَبَيَّنَ لَهُ [النَّبِيُّ] «٢» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْمِ، وَمَبْدَؤُهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، فَيَكُونُ أَفَادَ بِمَا فَعَلَهُ إِقَامَةَ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ شَرِيعَتِهِ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا" [المائدة: ٤٤] «٣» وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تُقْبَلُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ، وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جماعة من التابعين وغيرهم إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ السُّورَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَرَجَمَ الزَّانِيَيْنِ «٤»: فَالْجَوَابُ، أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ وَأَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ بِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا عَمِلَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارًا لِتَحْرِيفِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، فَكَانَ مُنَفِّذًا لَا حَاكِمًا «٥». وَهَذَا عَلَى التَّأْوِيلِ الأول، وعلى
(١). من ع.(٢). من ك، ع.(٣). راجع ص ٨٨، ص ٣٤٩ من هذا الجزء،(٤). في ع: في رجم.(٥). في ك وع: منفذا لأحكامها.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute