الْإِدْمَاجُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعَةِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَدَّ فِي الْأَبْوَابِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي مَبْحَثِ الْإِطْنَابِ أَوْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ آلِهَتَهُمْ أَنْصَارٌ لَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ادْعُوا نُصَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيزًا لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَادْعُوا مَنْ يَشْهَدُ بِمُمَاثَلَةِ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ لِمَا نَزَّلْنَا، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: ١٥٠] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (ادْعُوا) أَوْ مِنْ (شُهَدَاءَكُمْ) أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ غَيْرَ دَاعِينَ لِذَلِكَ اللَّهَ أَوْ حَالِ كَوْنِ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ اللَّهِ بِمَعْنَى اجْعَلُوا جَانِبَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ كَالْجَانِبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقَدَ آذَنَّاكُمْ بِذَلِكَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ لِأَنَّ شِدَّةَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ تَكُونُ بِمِقْدَارِ تَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ (دُونِ) بِمَعْنَى أَمَامَ وَبَيْنَ يَدَيْ يَعْنِي ادْعُوَا شُهَدَاءَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ ... إِذَا ذَاقَهَا مَنْ ذَاقَهَا يَتَمَطَّقُ (١)
كَمَا جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِمَعْنَى مِنْ دُونِ حِزْبِ اللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَ مِنَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَضِينَاهُمْ شُهُودًا فَإِنَّ الْبَارِعَ فِي صِنَاعَةٍ لَا يَرْضَى بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَصْحِيحِ فَاسِدِهَا وَعَكْسِهِ إِبَاءَةَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى سُوءِ الْمَعْرِفَةِ أَوِ الْجَوْرِ، وَكَلَاهُمَا لَا يَرْضَاهُ ذُو الْمُرُوءَةِ وَقَدِيمًا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَنَافَرُ وَتَتَحَاكَمُ إِلَى عُقَلَائِهَا وَحُكَّامِهَا فَمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ لَهُمْ غَلَطًا أَوْ جَوْرًا. وَقَدْ قَالَ السَّمَوْأَلُ:
إِنَّا إِذَا مَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى ... وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ
لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا ... نَلَظُّ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ (٢)
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَجِيءُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إِنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِإِثْبَاتِ الْعُيُوبِ أَوْ بِالسَّلَامَةِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَكُنْتُ أُعَلِّلُ ذَلِكَ فِي دُرُوسِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَدَالَةِ تَحَقُّقُ الْوَازِعِ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَدْ قَامَ الْوَازِعُ الْعِلْمِيُّ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَقَامَ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ لِأَنَّ الْعَارِفَُُ
(١) يصف الْخمر فِي الصفاء بِأَنَّهَا تريك القذى أمامها من شدَّة مَا تكبر حجمه فِي نظر الْعين وَهِي بَيْنك وَبَين القذى. وَقَوله: يتمطق أَي يُحَرك فَكَّيْهِ وَلسَانه تلذذا بِحسن طعمها. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدته القافية الْمَشْهُورَة.(٢) لظ بالشَّيْء يلظ وألظ بِهِ يلظ هما بِمَعْنى لزمَه وثابر عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute